قبل 15 عاما من الآن، وفي ظل حالة من الصراع الضاري الأقرب ل"خناقة" منه إلى "المنافسة" داخل أروقة جريدة "نهضة مصر" حول المصادر الصحفية التي سيتابعها المحررون، اتخذت قرارا صعبا في نهاية خريف 2003، بأن أتابع الملف الكنسي في الجريدة، حبا في المغامرة وهروبا من الصراع، الذي بلغ وقتها حد تكسير العظام. لم يكن "الملف الكنسي" بمعناه وشكله الحاليين، بل أكثر من هذا، أن الصحف وقتها لم تكن تعرف مصطلح "الملف الكنسي"، كانت متابعة شؤون الكنيسة أمرا قاصرا على مجلة روزاليوسف فقط، وبعض الأخبار الرسمية في الصحف القومية. وقتها، وجدت يد الأستاذ العظيم أسامة سلامة رئيس تحرير روزاليوسف الأسبق، تمتد إليّ بالعون، وقد كان رئيسا لقسم المجتمع المدني وحقوق الإنسان في "نهضة مصر"، وتاريخه في متابعة الملف الكنسي يعرفه القاصي والداني، وبلغ فيه مبلغا لم يرتق إليه أحد، ثم كانت بدايتي العملية في متابعة الملف من خلال الأستاذ كمال زاخر الذي كان -ولا يزال- شعاع النور لكل صحفي يريد أن يتابع هذا الملف. مع بداية متابعتي للملف، كان دائما ما يثار كلام حول "الرجل الحديدي" في الكنيسة، وقوته التي تفوق البابا شنودة نفسه.. كنت أظن، في بداية الأمر، أن في الكلام مبالغة أو تجنيا على شخص الأنبا بيشوى، وحين تبحرت في متابعة الملف ومع مرور الوقت، كان هذا المصطلح "الرجل الحديدي" يأخذ طريقه إلى عقلي وقلبي، بما ألمسه من واقع وما أسمعه من روايات. كنت شبه مقيم في المقر البابوي، لا تفوتني عظة من عظات البابا شنودة، أعيش يوميا بين أسوار الكنيسة وفضاء الأديرة، كان المقر البابوي ينقلب رأسا على عقب فور حضور الأنبا بيشوى. كان رجلا ملتحفا، يكتنفه الغموض، كارها للإعلام، قليل الظهور، صافي البشرة، هادئ الملامح، حاد الردود، تنظر إليه وهو يمشي في ساحة الكاتدرائية، بثيابه الكثة المتطايرة من خلفه في الهواء، كصقر منثور الجناحين، ونظرة ثاقبة نافذة، يميل برأسه قليلا إلى الأمام، متقدمة على جسد ثابت الخطى، غير مبال بالمتسارعين إلى يده لتقبيلها، حتى لو كان أسقفا أو كاهنا. لا يجرؤ أسقف على الغياب عن عظة البابا يوم الأربعاء، لو تصادف وجوده في الكاتدرائية وقتها، إلا الأنبا بيشوى الذي كان يجلس في المقر البابوي منفردا، حين يكون البابا في عظته داخل الكاتدرائية. حين كان الصحفي يكتب اسم الأنبا بيشوي في خبر، كان يحتاج لورقتين "دشت" حتى يكتب المناصب التي يمسك بها داخل الكنيسة، فكان له ما لم يكن لغيره، من قبل أو من بعد، أن يتولى مطران منصب سكرتير المجمع المقدس قرابة 27 عاما. كان "الأسقف الجزار" في محاكمة الأنبا إيساك والأنبا تكلا والأنبا أمونيوس وفرز جورج حبيب بباوي، ورأس الحربة في صراع البابا شنودة مع الأب متى المسكين. كان الرصاصة التي يطلقها البابا على الأساقفة المختلفين معه أوالمتجاوزين ماليا ودينيا، وكان حصان الكنيسة في حرب العقيدة مع الطوائف الأخرى، وكاتم أسرار البابا شنودة وصندوق الكنيسة الذي لا يطلع عليه أحد. حين التقيته في صيف 2008 في إحدى الندوات التي نظمها المجتمع المدني في فندق بيراميزا في الدقي، حول الأحوال الشخصية في المسيحية وقضية الطلاق والزواج في الكنيسة، وجدته إنسانا غير الذي كنت أرقبه من بعيد لبعيد، إنسانا غير الذي بنيت له صرحا في داخلي، من الغطرسة والسلطوية، إنسانا يسعى لأن يكون الشخص الذي يتحدث عنه الناس -الرجل الحديدي- لكن صفاء وجهه وسلامه الداخلي يمنعانه، رجل غيرته على دينه جعلت منه عدوا لأبناء دينه قبل أن يكون عدوا لأبناء الديانات والمذاهب الأخرى. التقيته بعد ذلك عدة مرات، وكان انطباعي عنه في كل مرة لا يختلف عن المرة الأولى.. لكن، لأن لقاءاتي به كانت على فترات بعيدة، فكنت ألتقيه أنا مشحونا وممتلئا بالصورة القديمة التي ترسخت في داخلي عنه. كنت أهابه وأخشاه، حتى إنني التقيته ذات مرة، منذ سنوات قليلة، مصادفة في شارع سوريا بالمهندسين، بالقرب من مستشفى السلام، ترافقه راهبة تحمل له أوراق الكشف الطبي ومظاريف الأشعات، بعد أن تمكن منه المرض واستسلم لشيخوخته وباتت عصاه سنده في الحياة. الحقيقة أن رهبة مني وهيبة منه منعتاني من الذهاب، حتى مر إلى جوارى وأنا أتمنى أن أسلم عليه، وأقول له، "أنا الذي كتب عنك كتابات لو جمعتها لسطرت كتبا.. أنا الذي كتب اسمك أكثر مما كتبت اسمي أنا.. أنا الذي لطالما حلمت أن أجلس أمامك لأحاورك لأباهي زملائي الصحفيين بأنني أجلستك أمامي". هذا الرجل له في شخصية كل صحفي مر على الملف الكنسي نصيب، وسواء كنت مع المتفقين أو المختلفين معه، لا يسعك غير أن تقف له إجلالا واحتراما وتقديرا، فهو رجل آمن، ودافع عنه إيمانه حتى الرحيل.. بشيخوخة صالحة، رحل الملتحف، والرجل الحديدي، وجزار الأساقفة، ورجل المعارك وأسد الكرازة المرقسية.