كتب- أحمد مطاوع لم يعد الفن مجرد وسيلة ترفيه ورفاهية، في عصر السموات المفتوحة والشبكات العنكبوتية المترابطة، إذ أصبح أداة اقتصادية وسياسية واجتماعية تغزو العالم في لحظات معدودة وإن كانت كل عناصره محلية، فلغته الناعمة وتأثيره الحسي النفاذ يجعلاه يخترق القلوب قبل العقول، ويفهم الجميع معاني الإبداع فيه وإن كانوا لا يجيدون الترجمة الحرفية للمنطوقات، فقط يحس المعاني ويستمتع بالإجمال والتفاصيل ليعرف الكثير والمزيد، فهو مقياس الذوق العام، واختصارًا "الفن سفير الشعوب وصائد القلوب المربح". وثبت أن فيديو كليب فني مدته "4 دقائق" يمكنه أن يصبح حديث الكون، ويحل أزمات دول وينقذها من ضياع محقق وكأنه "فانوسًا سحريًا" هبط من السماء في يد بائس وثق العجز قدميه، وهو الوصف الذي ينطبق على الأغنية الصيفية الراقصة "ديسباسيتو - Despacito" للثنائي البورتوريكي لويس فونسي ودادي يانكي بمشاركة جاستن بير. العالم يرقص «ببطء» "ديسباسيتو" أصبحت أنجح أغنية بوب باللغة الإسبانية في التاريخ، إذ تخطى الفيديو المصور لها، 2.6 مليار مشاهدة على "يوتيوب"، وحققت الأغنية رقمًا قياسيًا بعد أن فرضت نفسها كأكثر الأغنيات بثًا على الإنترنت في التاريخ إذ تجاوز بثها 4.6 مليار مرة عبر منصات بارزة، وتصدرت قوائم سباقات الأغاني في 35 دولة حول العالم وهيمنت على المحطات الإذاعية. هل سمعت عن بورتوريكو؟ أنقذ كليب "ديسباسيتو" دولة بورتوريكو من الإفلاس، بعدما تمكن نجاحه في رفع معدل اهتمام السياح بالجزيرة المطلة على الكاريبي إلى 45% منذ انتشار الأغنية عالميًا، وذلك بسبب المشاهد والمعالم السياحية الطبيعية والأماكن التي ظهرت خلاله، وضمها منظمو الرحلات السياحية إلى برامجهم، إذ يرى خبراء السياحة أن الثقافة الشعبية لها تأثير قوي على قرارت السفر، كما أكد محللين أن شهرة الأغنية ستكون سببًا في إنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد. وبكل تواضع، أعرب فونسي، عبر صفحته على "انستجرام"، عن سعادته البالغة لتأثير الأغنية على بلاده، مؤكدًا أن "بورتوريكو هي البطل الحقيقي لهذه الأغنية والكليب"، شاكرًا شريكه في الأغنية دادي يانكي، والمخرج كالوس بيريز، وملكة جمال الكون التي ظهرت في الكليب زوليكا ريفيرا. «المرجيحة» تحبط تجربة «ديسباسيتو» على النقيض تمامًا من العبقرية البروتوريكية التي قدمت مردودًا يفوق تأثير حملات ترويجية تكلف مليارات الدولارات، قد يأخذ "فيديو كليب" بنفس الحيز الزمني، مجتمعًا بأكمله وذوقه وثقافته نحو الهبوط، دون أن يدري أفراده وهم يساهمون في انتشاره ويشجعون مهاويس الشهرة على السير في هذا الطريق الملفت السهل، وإن كانوا يقومون بذلك في سياق سخرية واسعة من انحطاط المحتوى الفني، لكن تكثيف التداول يكون بمثابة صكًا للنجاح يحقق هدف صناع هذا العمل الهابط وهو الانتشار الضخم، والذي يساهم دون قصد في تشكيل صورة ذهنية سيئة عن شعب وبلد بأكمله. وطفح في الأيام الأخيرة على سطح الرأي العام في مصر، مقطع فيديو يرجح بحسب من روج له أنه "كليبًا غنائيًا" باسم "ركبني المرجيحة" لمغني مجهول يدعى أحمد أبو شامة وموديل مغمورة تدعى دالي حسن، ثنائي بلا أي موهبة غنائية تذكر أو حتى تمثيلية، لكن الكليب أثار جدلًا واسعًا وشاهده وتشاركه الملايين بكثافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا "يوتيوب" و"فيسبوك"، حتى أصبح ظاهرة وحديث الساعة إما سخرية أو سعيًا لتحليل مضمونه الفني وما احتواه من إيحاءات جنسية وكذلك لنقد الأداء الهزيل للمشاركين فيه، كما فردت مواقع إخبارية وقنوات فضائية مساحة كبيرة استضافت فيها الموديل التي غنت فيه بصوت طفولي ومخارج ألفاظ ضائعة تمامًا. كليب الترافيك.. تضخيم بلا مبرر شوه الكليب الغريب في كل شيء ملامح الأغنية الشعبية، والأغرب كان الاهتمام الإعلامي بحثًا عن "الترافيك" وإن كان على حساب الذوق العام، فبدلًا من تسليط الضوء على تجربة مثل "ديسباسيتو" للاقتداء بها، ساهم الإعلام في تضخيم تلك الموديل المقتنعة تمامًا بأنها "نجمة وصاروخ الفن القادمة"، وأنها "ملكة جمال فرضت نفسها على الساحة"، مستشهدة برأي الملحن حلمي بكر، فيها وأنه شجعها على التمثيل، مدعية أنها جاءت إليها عروضًا كثيرة من فنانين مصريين وعرب للغناء معهم، بخلاف طلبها للتمثيل في أفلام سينمائية ومسلسلات، موضحة أن "ركبني المرجيحة" مجرد أغنية كوميدية ضمن أحداث فيلم سينمائي تقوم ببطولته. ماذا استفادت مصر؟ تنكر الفنان حلمي بكر، من بطلة الكليب المتداول، مؤكدًا أنه أكد لها أن "اللي زيك ماينفعش يغني"، موضحًا أنه كان مهذبًا معها، وحينما قال لها "روحي مثلي بدل الغناء"، كان يسخر منها قاصدًا أنها "لا لها في ده ولا في ده". وأكد بكر، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج "صحي النوم"، إنه يرفض شكلًا وموضوعًا مثل هذه الأعمال التي تشوه صورة مصر، معبرًا عن استيائه "مش بلد أم كلثوم اللي يطلع منها الأغاني ديه، دي أغاني من تحت اللحاف"، مطالبًا هيئة المصنفات ونقابة الموسيقيين بتشديد الرقابة على مثل هذه الأعمال. وحذر طارق مرتضى، المتحدث باسم نقابة المهن الموسيقية، "الفنانة" دالي، من مجرد التفكير في الغناء على خشبة المسرح، متوعدًا إياها بالحبس والغرامة حال أقدمت على ذلك، مبديًا أسفه من كونها ليست عضوة في النقابة، وبالتالي لا يجوز التحقيق معها أو معاقبتها. واتفق متحدث نقابة المهن الموسيقية، مع الملحن حلمي بكر، في أن انتشار الأغنية على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس دليلًا على نجاحها، وأن العمل لا يمكن تصنيفه إبداعًا أو فنًا، والخلاصة أن مثل تلك الأعمال لا تسيئ إلى أصحابها بل هم أكثر المستفيدون هذه الأعمال، في حين أنها تسيئ إلى سمعة مصر الفنية، ومن الممكن أن تضرها اقتصاديًا حال تم تداولها على مستوى العالم، لأنها تعكس صورة ذهنية محبطة عن الثقافة الشعبية المصرية، وكذلك سيكون لها مردود سيئ على الجذب السياحي. مصر تنفق 66 مليون دولار دعاية سياحية.. ديسباسيتو غائبة في الوقت الذي وصل فيه كليب "ديسباسيتو" إلى ما يقرب من 5 مليار مواطن حول العالم، بتكلفة لا تذكر بجانب حملات ترويجية تنفق عليها بلدان ملايين الدولارت ولا تؤدي الغرض المستهدف منها، تعاقد وزارة السياحة المصرية في أواخر 2015، مع شركة جي دبليو تي لمدة 3 سنوات مقابل 22 مليون دولار في العام، نظير إطلاق حملات ترويجية في أوروبا. وأطلقت الشركة حملة استهدفت السوق الإيطالية عام 2016، واشتكى سياح إيطاليون في سبتمبر الماضي، من أنهم "لم يسمعوا" عن الحملة، في حين أكد يحيى راشد وزير السياحة، وقتها خلال بيان رسمي، أن الحملة أطلقت في عدة مدن إيطالية وعلم بها الإيطاليون كافة، وأن الدعاية الإلكترونية الموجهة بلغ التفاعل معها فى المواقع الإيطالية فقط ما يقرب من 22 مليون تفاعل، و90 مليون تفاعل عالميًا، وحققت الحملة 1.5 مليون تفاعل عبر الفيسبوك، ما بين إعجاب وتعليق ومشاركة ومشاهدة فيديوهات، ووصلت الحملة إلى 7 ملايين إيطالى عبر الفيسبوك، وحققت 540 ألف تفاعل عبر انستجرام. الأرقام التي عرضها الوزير، مقارنة بما حققه كليب "ديسباسيتو" من مشاهدات مليارية، تضعنا أمام تساؤلات، حول إمكانية توفير 66 مليون دولار قيمة التعاقد مع شركة الدعاية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر، وتعويضها بكليبًا غنائيًا أو اثنين على الطريقة البورتوريكية، ويتم خلالهما استعراض الأماكن السياحية والطبيعية الخلابة، التي تعج بها مصر في شتها مدنها، مستغلة مطربين مصريين يتمتعون أيضًا بشهرة دولية، مع الاستعانة ببعض المشاهير.