صباح 5 يونيو 1967.. كانت تجرى امتحانات الثانوية العامة في ربوع مصر، وقطاع غزة التابع لها. وفي إحدى المدارس بمدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، كان الأستاذ أحمد حسام الدين، معلم اللغة العربية، يجلس في غرفة المدرسين، يتناول وجبة الإفطار، ويستمع إلى إذاعة صوت العرب، التي انقطع إرسالها فجأة لإذاعة البيان رقم واحد للقوات المسلحة: "قوات العدو تهاجم قطاعاتنا في سيناء وجارِ الرد عليها". قبل هذا التاريخ بعامين، وبالتحديد عام 1965، تم إيفاد "أحمد" في بعثة تعليمية من مصر إلى قطاع غزة، وهناك عمل معلمًا في مدرسة جبالية الثانوية بنات، والتي تقع في منطقة "جبالية" بمدينة غزة، الملاصقة للحدود مع الأراضي المحتلة. خلال شهرين، هيأ سكنًا لأسرته، وأرسل في طلبها، حيث حضرت زوجته وأولاده الأربعة، الذين التحقوا في مدارس مختلفة في غزة، وكانت إقامتهم في حي الرمل. وكما حكى، كانت تلك من أحلى الأيام التي مرت عليه وأسرته، حيث سكنوا في "فيلا" لها حديقة صغيرة، يزرعون فيها خضروات، كما كانت بها أشجار مثمرة عديدة. تلك الحياة الهنيئة لم تستمر طويلًا، ففي منتصف مايو 1967، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قرارًا بغلق مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، وبالتزامن، جاءت تعليمات بترحيل الأسر المصرية من القطاع، حيث وصلت حالة التوتر بين مصر وإسرائيل إلى ذروتها. رحلت العائلة إلى مدينة السويس، التي كانت تقيم بها قبل الذهاب إلى غزة، وبقى "أحمد" في القطاع، حيث انتدب إلى "العريش" للإشراف على امتحانات الثانوية العامة، التي بدأت في 3 يونيو، وكان يذهب من "غزة" إلى "العريش" يوميًا، وكان في ترتيبه بعد انتهاء الامتحانات، أنه سيلحق بأسرته في السويس، ويصطحبهم إلى مسقط رأس العائلة، بإحدى قرى محافظة الغربية. اندلعت الحرب وهو في "العريش"، وكانت المسافة بينها وبين "غزة"، 150 كيلو متر، مماثلة للمسافة مع "الإسماعيلية"، لكنه، ومصريون آخرون ممن يعملون في القطاع، آثروا الذهاب إلى غزة، ليشهدوا "دخول الجيش المصري إلى الأراضي المحتلة"، فيقول: "كنا نريد أن نكون شهودًا على هذا الحدث التاريخي الفريد". استقل معلم اللغة العربية ومن معه سيارة إلى "غزة"، وراعهم خلال الرحلة أصوات انفجارات عنيفة، وانبعاث أدخنة التي تظهر بعيدًا في الأفق، إلا أنهم سرعان ما طمأنوا أنفسهم مرددين: "الله أكبر.. الجيش المصري بدأ خطواته لتدمير إسرائيل". وصلوا إلى غزة في الظهيرة، ومازالت أصوات الاشتباكات واضحة، وظلت تقترب أكثر من موقعهم، الذي كان قريبًا من الشريط الحدودي مع مصر، وبعد ساعات قليلة، أصبحوا يستمعون إلى سيارات تجوب الشوارع، تستخدم مكبرات صوت لدعوة المصريين وأهالي غزة إلى "الاستسلام ورفع رايات بيضاء على المنازل". الصدمة كانت عنيفة، فقد كانوا ينتظرون أن يشهدوا تحرير القدس، ليفاجئوا بإسرائيل تحتل القطاع. بعد فترة، أصبحت تلك السيارات الإسرائيلية توجه "أوامرًا" للمصريين بالتجمع في مدرسة معينة للتحفظ عليهم والتحقيق معهم، وبالفعل توجهوا إلى تلك المدرسة، وهناك اجتمع المصريون، وكان أغلبهم مدنيين، إضافة إلى ضباط وجنود، اندسوا بينهم، وأخفوا هوياتهم العسكرية. هناك، علموا أن الكتيبة المصرية المكلفة بالدفاع عن مدينة غزة قاتلت ب"بسالة"، وحتى نفاذ الذخائر مع أفرادها، الذين استشهد أكثرهم، وقد كان أول ما كلفوا به من "سجانيهم" الإسرائيليين، هو الانتقال إلى مواقع تمركز تلك الكتيبة، ليقوموا بدفن "رفات" الشهداء، وقد أصيبوا بصدمة مما رأوا. ( نهاية الجزء الأول ) تنويه : تلك الشهادة منقولة من أسرة "صاحب القصة" وقد استخدمنا اسمًا مستعارًا