وسط الدمار.. يقف مسن يبكي بجوار جثة زوجته، التي كان يدفعها على كرسي مدولب، باحثًا بلا أمل - عن مشفى وسط كل هذا القتل والرعب، لكن أمر الله نفذ، وارتقت روحها لبارئها، تاركة إياه يبكي وقد أذهبت الصدمة عقله.. وليس ببعيد عنه يتقدم الجنود، فيما ينسحب المسلحون لخطوط خلفية. حلب عاصمة "سوريا" الثانية، وأعرق حاضراتها، والتي تنافس في قدرها وقيمتها مدن الشرق الأوسط العظيمة ك"بغداد والموصل والقاهرة والإسكندرية".. اليوم أصبحت ساحة قتال لأعراق الأرض، كل يريد "قطعة" من جسدها، وبينهم يسقط المدنيون شهداء الأطماع الزائلة. صحوة بعد أعوام لم يكن ليصدق الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك في العام 2012، إذا أخبره أحد مستشاريه أو أعوانه الأجانب، أن قواته تتقدم في حلب الشرقية، لكن وبعد مرور أكثر من 5 أعوام على اندلاع الثورة، تغير الموقف الاستراتيجي على أرض الميدان. فبعدما كانت تسيطر المعارضة المسلحة على مساحات شاسعة من محافظة حلب، انحصر تواجدها الآن في ريفها الشمالي والجنوبي، وأحياء قليلة فيما اسطلح على تسميتها "حلب الشرقية"، بعدما قدمت التعزيزات من أنحاء العالم لتعاون "الأسد". ورغم ال"بروباجندا" التي تتبناها وسائل إعلام النظام، لإظهار الجيش "العربي" السوري على أنه يقاتل كل "إرهابيي" الأرض، في مؤامرة "كونية" متعددة الأطراف، إلا أنه وعلى أرض الواقع، فقد استعان هذا الجيش ب66 ميليشية أجنبية لمؤازرته أمام المعارضة المسلحة وتنظيم "داعش"، وذلك بحسب الباحث البريطاني من معهد بروكينغ الدوحة، شارلز ليستر، المتخصص في الحركات الإرهابية في الشرق الأوسط. الباحث ذكر أن تعداد المقاتلين السوريين في "قوات النظام" لا يتجاوز ال27%، وتتوزع جنسيات المقاتلين الأجانب على العراق، وإيران، ولبنان، وفلسطين، واليمن، والبحرين، وباكستان، وأفغانستان، إلى جانب القوات الروسية بمختلف تشكيلاتها البرية والجوية والبحرية، مشيراً الى وجود عناصر أخرى من 39 دولة، وهو ما يشير الى وجود 49 جنسية تدافع عن نظام الأسد... كما تقود حملته على "حلب الشرقية" 5 ميليشيات أجنبية . وعن الوضع العسكري للقوات النظامية في حلب، خلال الأشهر الماضية، فقد نجحت في السيطرة على الأكاديميات العسكرية ومشروع ال1070 شقة، والراموسة، كما تمكنت من صد هجوم جيش الفتح واستعادة ضاحية الأسد، وبعض المبان السكنية التي سقطت في يد المعارضة بمنطقة ال3000 شقة، قبيل أن يبدأ عمليته العسكرية للقضاء على "المحاصري". وفيما أعلنت روسيا مؤخرًا توقف الحملة العسكرية على حلب الشرقية، لازالت المعارضة السورية تؤكد أنها تقاتل على جبهات "الإذاعة، جب الشلبي، المعادي، بستان القصر"، منوهة بأن المواجهات الأشرس تدور على جبهة الشيخ سعيد، حيث زعمت أنها كبدت قوات الأسد خسائر فادحة في العدة والعتاد. صراع الأخوة لا تنفك الاستغاثات أن تتوقف في "حلب الشرقية"، فبعد سقوط نحو 75% من مساحتها في يد النظام، لا زالت تتمسك المعارضة المسلحة فيها باختيار القتال، ولم تلجأ إلى الحل الذي سارع إليه المسلحون في "خان الشيخ" بالغوطة الغربية، حيث استقلوا "الأتوبيسات الخضراء" إلى إدلب، والتي أصبحت وكأنها تجمعًا للمعارضين السوريين، حيث وصلها في وقت سابق ثوار مدينة داريا، بعد صمود دام لعامين. إلا أن المعارضة "المحاصرة" في حلب، ورغم حاجتها الشديدة للتوحد، تشرذمت في صراعات داخلية، فقبيل الاكتساح الكبير للقوات النظامية في الشهرين السابق والحالي، اتهم تجمع "فاستقم كما أمرت"، التابع للجيش الحر، حركة عماد الدين زنكي وكتائب أبو عمارة، ب"البغي" عليه، وسرقة مستودعاته من الأسلحة والذخيرة، واعتقال عدد من قياداته، ودارت بينهما "مواجهات"، على إثره، لم تتوقف إلا حينما أعلن النظام سيطرته على حي الشيخ سعيد. وحينها أعلنت الفصائل المقاتلة في المدينة تشكيل "جيش حلب" الموحد، إلا أن رايات كل فصيل ظلت مرتفعة، ناهيك عن الشكاوى التي تطلق من مواطنين بالمدينة على أعمال "السرقة" التي تصدر عن بعض عناصر المعارضة، فغابت اللحمة الكافية مع الأهالي، وإن تغير الوضع قليلًا بعد تقهقر المسلحين إلى الأحياء القديمة. وعلى الضفة الثانية من الحصار، يقبع جيش الفتح، والذي يضم بين صفوفه حركة فتح الشام "النصرة سابقًا"، وجيش الإسلام واحرار الشام، إضافة إلى جيش إدلب الحر، وهو مكون من فصائل الجيش الحر المختلفة، والتي اكتفت جميعًا بقصف مواقع تخضع لسيطرة الأسد، ومنها حلب الغربية وكفرنبل والفوعة، ما أوقع إصابات وضحايا بين مدنيين. وما جعل المعارضة في حلب، تلتقط أنفاسها، بعدما اشتد عليها الخناق، الهجوم الذي نفذه تنظيم داعش علىة مواقع الجيش السوري في تدمر بريف حمص، ما دفع بالأخير إلى سحب قوات من حلب لتقديم المؤازرة هناك، حتى لا تسقط المدينة التاريخية مجددًا في يد التنظيم، إلا أن قوات الجيش السوري الحر في ريف حلب الشمالي، "المدعومة تركيًا، سارعت إلى بدء معركتها للسيطرة على مدينة الباب، التي يتواجد فيها "داعش". "خليفتان" على "الباب" اليوم أعلن الجيش السوري الحر انطلاق معركته لاستعادة مدينة "الباب" من تنظيم داعش، بمؤازرة تركية واسعة، حيث نجح في الساعات القليلة من البداية، في تحرير قريتين تابعتين للمدينة، إضافة إلى الطريق الشمالي لها. تلك المعركة تأتي بعد أشهر من بدء عملية "درع الفرات"، التي يرعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي قال إنها موجهة ل"المتطرفين" فقط، وخلق منطقة آمنة في شمال حلب، مع الحدود التركية، متنازلًا عن تصريحاته "النارية" السابقة، والتي كان يتحدث فيها عن الإطاحة ب"الأسد"، فأصبح يروج لمسألة التنسيق مع "روسيا"، كما تحدثت وسائل إعلام تركية رسمية، اليوم الجمعة، عن دفع تركيا بقوات خاصة، قوامها 200 جندي، للمشاركة في "تحرير" الباب. وعلى الجهة الأخرى، بدى مقاتلو "داعش" عاجزين عن التصدي للقوات "السورية - التركية"، حيث تقدم الجيش الحر المدعوم بالآليات والدبابات التركية، واستطاع في غضون أيام قليلة أن يحرر الشريط الحدودي بكامله من سيطرة داعش، كما سقطت مدينة "جرابلس" الاستراتيجية في يده دون عناء كبير، فيما فضل التنظيم الانسحاب إلى خطوط خلفية، وأصبح أكثر شراسة في المواجهة كلما اقترب تقدم القوات على "الباب". وأرجع البعض تراجع "داعش" إلى انشغاله على جبهات أخرى يراه أكثر "أهمية"، مثل ريف حمص ودير الزور، إضافة إلى مواجهاته العنيفة مع الجيش العراقي في محافظة نينوى، وبالتحديد في مدينة الموصل، واكتفى التنظيم بتوجيه التهديدات والوعيد ل"تركيا"، داعيًا "مبايعي" خليفته، أبو بكر البغدادي، إلى استهداف السفارات التركية. وفيما تحدثت مصادر تركية عن أن الوجهة القادمة بعد "الباب" هي مدينة "مبنج"، الخاضعة للأكراد، وزعم قادة بعض الفصائل في الريف الشمالي أنهم سيفتحون جبهة جديدة مع النظام، بعدما أصبحوا على تماس مع قواته، يظل مستقبل حلب مذبذبًا في ظل عدم قدرة أي فصيل على الحسم العسكري، وكأنها نموذج مصغر لحال سوريا، والتي لن تجد حلًا لأزمتها إلا في أروقة السياسة.