كتب - محمد شرف الدين بركان آخر يثور، وعقدة أخرى تضاف لحرب الألف عقدة في سوريا وشمالها على وجه الخصوص، هكذا يبدو الوضع في هذا الأتون الملتهب بعد 5 أيام فقط على اقتحام الدبابات التركية للحدود السورية، ميممةً وجهها شطر مدينة جرابلس الحدودية، المعقل الأهم لتنظيم "الدولة الإسلامية" على الحدود الشمالية لسوريا، وهو ما أجبر التنظيم على الانسحاب سريعًا باتجاه مدينة الباب في الجنوب الغربي، لتسقط جرابلس - دون مقاومة حقيقية - في أيدي قوات الجيش الحر المدعومة من تركيا. بدا الهجوم التركي في ظاهره مستهدفًا تنظيم "الدولة الإسلامية"، خاصةً بعد أيام قليلة من عملية انتحارية ضد حفل زفاف بمدينة غازي عنتاب التركية، اتهمت أنقرة التنظيم بالوقوف خلفها. لكن ما لا تخفيه أنقرة نفسها، أن حملتها على الشمال السوري تعتزم الإطاحة بوحدات حماية الشعب الكردية "YPG" إلى شرق نهر الفرات، والمسارعة لاحتلال مناطق تنظيم "الدولة الإسلامية" المرشحة للسقوط في أيدي الأكراد، على غرار ما حدث في منبج، وهو السبب الأهم والمحرك الرئيسي للهجوم التركي في نظر الكثير من المراقبين، وربما كان إطلاق مسمى "درع الفرات" على هذه الحملة يُفسر كل شيء. طوال العام الماضي، دأب المسؤولون الأتراك على تذكير وحدات الحماية بالخط الأحمر الذي رسموه لها على مياه الفرات، حيث يعني عبور ال"YPG" النهر إلى الغرب اقترابهم بشدة من وصل مناطق سيطرتهم في شمال شرق وشمال غرب سوريا ببعضها البعض، وهو الهدف الإستراتيجي الأسمى للأكراد، والذي يُعد الخطوة قبل الأخيرة على طريق إعلان الدولة الكردية - أو على الأقل منطقة الحكم الذاتي - هذا الحلم التاريخي الذي تُجيش تركيا الجيوش الآن لإيقاظ الأكراد منه قبل أن يتحول إلى حقيقة. لكن رغم كل هذه التحذيرات التركية اندفعت وحدات الحماية نحو غرب الفرات في 31 مايو الماضي، في طريقها نحو مدينة منبج الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، تحت مظلة طيران التحالف الدولي، متسترةً بعباءة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهو تحالف يمثل الأكراد حوالي 90% من قوته - وفقًا لبعض التقديرات - ويضم أيضًا بعض الفصائل العربية، وأُعلن تأسيسه في أكتوبر الماضي بمدينة الحسكة، معقل الأكراد الأهم في شمال سوريا الشرقي. حصلت تركيا على العديد من التطمينات الأمريكية بأن الأكراد سينسحبون إلى شرق الفرات مرة أخرى، فور نجاحهم في طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" من منبج، لكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أصبح مصرًا على التأكد من الأمر بنفسه، خاصةً عندما سقطت المدينة بشكل كامل في أيدي قوات سوريا الديمقراطية في 13 أغسطس الماضي، بعد شهرين ونصف الشهر من القتال المرير وحروب الشوارع. وعلى الرغم من مطالبة نائب الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن، الأكراد بالعودة إلى شرق الفرات، محذرًا إياهم من المخاطرة بفقدان دعم واشنطن إذا لم يمتثلوا لهذا الطلب، ثم إعلان وحدات الحماية انسحابها بالفعل وتركها إدارة منبج ل"أهل المدينة"، إلا أن هذا فيما يبدو لم يفلح في إقناع أردوغان، حيث أن عودة الأكراد إلى الشرق - بشكل جزئي أو كلي - لا تعني شيئًا طالما ظل حلفاؤهم العرب يسيطرون على مناطق غرب النهر، ومن بينها مدينة منبج الإستراتيجية، خاصةً أن الفصائل العربية في "سوريا الديمقراطية" يُنظر لها على أنها مجرد تابع صغير للعنصر الكردي الغالب على هذا التحالف. ترجم أردوغان عدم اقتناعه إلى هجوم سريع تُمثل قوات الجيش الحر رأس حربته، فيما تقدم لها الدعم طائرات ودبابات ومدفعية الجيش التركي. تشن أنقرة وحلفاؤها حاليًا هجومين متزامنين انطلاقًا من جرابلس، أحدهما في اتجاه الغرب للتوسع على حساب تنظيم "الدولة الإسلامية"، والعمل على الإطاحة به تمامًا من المنطقة الحدودية ومدينة الباب، آخر معاقله الكبرى في أقصى شمال سوريا. أما الهجوم الآخر - وهو الأهم - فنحو الجنوب مستهدفًا الوصول إلى منبج، وهو ما يُنذر بحرب حامية الوطيس مع الأكراد الذين لا يبدون بصدد التخلي عن هذه المدينة بسهولة، بينما لم تجف بعد دماء 400 مقاتل كردي قُتلوا على أبوابها قبل أسابيع قليلة. تستهدف الدولة التركية بشكل واضح احتلال المنطقة ما بين جرابلس شرقًا وأعزاز غربًا حتى منبج والباب جنوبًا، من أجل القضاء تمامًا على أي أمل للأكراد في تحقيق الاتصال بين مناطقهم، بالإضافة إلى خلق "منطقة آمنة" قد تستطيع إعادة تسكين اللاجئين السوريين بها بعيدًا عن الداخل التركي. وفي ظل هذا الوضع شديد التعقيد تبدو إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في موقف لا تحسد عليه، بين سندان صديقتها تركيا ومطرقة حلفائها الأكراد، حيث سيكون من العسير على واشنطن إقناع أردوغان بالتوقف قبل أسوار منبج، أو مطالبة الأكراد بنسيان ما بذلوه من دماء وتضحيات من أجل اقتلاع هذه المدينة من سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، بل وتسليمها عن طيب خاطر لأردوغان عدوهم اللدود، وهو ما قد تعتبره وحدات الحماية خيانة أمريكية كبرى، وتغرير بها من قبل واشنطن التي استخدمت الأكراد كمخلب قط لدحر التنظيم، لكنها ألقت بهم بين أنياب الآلة العسكرية التركية فور انتهاء مهمتهم. في نزعها الأخير، لا تمتلك إدارة أوباما سوى هدف إستراتيجي وحيد على الصعيد الخارجي، تسابق الزمن من أجله، ألا وهو إلحاق أقصى ضرر ممكن بتنظيم "الدولة الإسلامية"، قبل أسابيع من انطلاق السباق نحو البيت الأبيض، حيث قد يتناسب مقدار النجاح في هذا الملف طرديًا مع فرص المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، في التفوق على منافسها الجمهوري، دونالد ترامب. لذا فإن صناع القرار في الولاياتالمتحدة لا يكترثون كثيرًا لهوية الأطراف التي تقاتل التنظيم حاليًا، بقدر الاهتمام بما يمكن أن تحدثه هذه الأطراف من تغيير على الأرض، فبعد دعم واشنطن للأكراد ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في كوباني وتل أبيض ومنبج، على الترتيب، ها هي تقدم الدعم لتركيا في جرابلس، لكنها تقف الآن حائرة حيال ما ينبغي فعله عندما يدق حلفاؤها طبول الحرب في مواجهة بعضهم البعض، وهو ما حدث بالفعل وإن لم يبلغ أوجه بعد.. حتى هذه اللحظة. على الجانب الآخر، وفي شُرفة مطلة على هذا المشهد الدرامي، يقف الرئيس السوري، بشار الأسد، وحلفاؤه في موسكو وطهران مكتفين بالمراقبة، انتظارًا لانقشاع الغبار واتضاح الرؤية. مازالت معارك "درع الفرات" بعيدة عن مناطق سيطرة النظام في ريف حلب الشمالي، لكن في حال سيطرة أنقرة وحلفائها على منبج والباب سيكون بوسعها تهديد طريق القوات الحكومية الوحيد إلى حلب، بل وربما قطعه أيضًا إذا شاءت، وبالرغم من أن التنسيق "التركي - الروسي - الإيراني" يبدو جليًا بخصوص حملة "درع الفرات"، نظرًا لتقاطع مصالح الأطراف الثلاثة في مواجهة الأكراد - في هذا التوقيت على الأقل - إلا أن الحرب السورية قد أكدت للعالم على مدار 60 شهرًا أنها حرب لا تعرف أبدًا الثقة أو التحالفات الثابتة.