في خضم طلب التفويض الذي وجهه الرئيس عبد الفتاح السيسي للشعب في أعقاب 30 يونيو لمكافحة الإرهاب، قامت الجهات المعنية بطباعة مئات الألوف من الصور تجمع بينه وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتوزيعها على المواطنين الذين احتشدوا في ميدان التحرير يوم 26 يوليو 2013. في ذلك الوقت، رأى "أبانا الذي في السماء" في أجهزة الشؤون المعنوية والإعلام الموجه ان استحضار الرجل الذي توفاه الله منذ نصف قرن تقريبا كان مفيدا للزعم بأن السيسي وقف، كما ناصر، في مواجهة الولاياتالمتحدة والغرب رافضا مطالبهم بعدم عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي. ولكن أنصار السيسي والأجهزة المعنوية لم ترغب يوما في أن تربط ما بين السيسي وناصر في مجال العدالة الإجتماعية والإنحياز للفقراء. بل إن الرئيس السيسي كان يختار دائما اسوأ في المرحلة الناصرية من قمع لحرية الرأي والتعبير وإقامة دولة أمنية لكي يبدي اعجابه الشديد بهما. ولا ننسى في هذا الصدد تصريحه الشهير "يا بخت عبد الناصر، كان الإعلام كله معاه" متناسيا أن ذلك لم يتحقق سوى بتأميم وسائل الإعلام، وتحويل كل الصحفيين إلى موظفين تعينهم الدولة بعد ان ينالوا موافقة الأجهزة الأمنية. وبينما كان ناصر وأجهزته يقولون أنه لا يمكن تطبيق الديمقراطية في مصر في ظل ظروف الحروب القائمة مع إسرائيل والرغبة في التنمية المستقلة، وتبنى المخلوع مبارك نفس المنطق، فإن السيسي لا يمل من تكرار أن حقوق الإنسان والديمقراطية قيم يحتاج المصريون إلى 25 عاما اضافية لكي تتحقق. تدهورت نسبيا العلاقة بين الناصريين الذين أحاطوا بالسيسي عند استعداده للترشح للرئاسة بعد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية، حيث أن الثأر قديم وعميق بين دراويش الناصرية وأسرة آل سعود الحاكمة التي يتهمونها بإفشال المشروع القومي الناصري والمساهمة في هزيمة اسرائيل لمصر في 1967. وبدأنا نرى بعض هؤلاء يبدون الندم، ويدركون أنهم لم يقدموا الدعم لناصر جديد. كما شعر الكثير من هؤلاء أنه فيما يتعلق بالسياسية الاقتصادية، وطبعا العلاقة مع العدو الإسرائيلي، فإن النموذج والقدوة للسيسي ليس ناصر، بل الرئيس الراحل أنور السادات. وبعد أن كان المخلوع الفاسد مبارك يتجنب تقريبا أي استذكار للسادات لكي يبرز دوره هو الشخصي في حرب اكتوبر لدرجة أن أجيال من المصريين تصورت أن القوات الجوية فقط هي التي هزمت العدو في 1973، فإن الرئيس السيسي أعاد سريعا السادات للواجهة. وبدأنا نرى السيدة جيهان السادات في مقدمة الصفوف بصحبة السيسي، كما يذيع التلفزيون الرسمي المصري بشكل منتظم أفلام وثائقية عن حكمة السادات وعظمته، من دون الإشارة بالطبع إلى حلم الرئيس السيسي الشهير الذي أسر به للزميل ياسر رزق عندما كان يترأس تحرير المصري اليوم في اكتوبر 2013 وتسرب لقناة الجزيرة كاملا، عندما أتاه السادات في المنام قبل 35 عاما وأخبره أنه كان يعرف أنه سيتولى رئاسة مصر، فرد السيسي قائلا أنه أيضا يعرف أنه سيتولى رئاسة مصر. ولما كان السادات هو البشارة في الحلم، فإن أحلام الرئيس أوامر. وفي تصريحاته الأخيرة في الاسكندرية بشأن الحاجة العاجلة للإصلاح الاقتصادي في مصر ولتبرير قرض صندوق النقد الدولي الأخير بقيمة 12 مليار دولار، أشاد الرئيس السيسي مجددا بالسادات، وقال أن أول محاولة جادة لإصلاح الاقتصاد بدأت في يناير 1977، ولكنها فشلت بعد اضطرار الرئيس السابق التراجع أمام غضب الرأي العام. ورغم أنه قد مضت ثلاثة وأربعون عاما كاملة منذ وقوع آخر حرب خضناها ضد العدو الإسرائيلي في 1973، فإن السيسي أضاف في تصريحاته أن تلك الحروب استنزفت موارد مصر وتسببت في الأزمة الاقتصادية القائمة حتى الآن. ولنا أن نتخيل ماذا سيكون رد فعل المواطن الألماني أو الياباني لو أن حكامهم قالوا لهم الآن أن الحالة الاقتصادية لديهم متدهورة بسبب الحرب العالمية الثانية التي كانت بكل تأكيد أوسع دمارا ومأساوية من كل حروبنا ضد العدو الإسرائيلي. المثير أن النائب في البرلمان المصري مصطفى بكري قال في ندوة عقدت قبل يومين للدفاع عن سعودية تيران وصنافير أن مسئولين كبار ذهبوا للمخلوع مبارك في مستشفى المعادي لسؤاله عن حقيقة ملكية الجزيرتين، فقال أنه كان يعرف بمطالب السعودية وقام بإرسال خطاب للأمم المتحدة باعادة ترسيم الحدود المائية بين البلدين في 1990، ولكنه كان "بيسفلق" في التنفيذ خشية الرأي العام المصري وغضبه المحتمل من التنازل عن اراضي مارست عليها مصر كل أشكال السيادة منذ عقود تسبق ظهور المملكة السعودية للوجود كدولة. وسواء تعلق الأمر بالسادات، أو مبارك، فإن كلاهما اضطر في النهاية إلى التراجع أمام الرأي العام المصري، رغم كل ما كانوا يتمتعان به من نفوذ. أما الرئيس السيسي فيتصرف حتى الآن بمعزل عن الرأي العام، ومصمم على المضي قدما في طريقه أيا كانت المشاعر السائدة بين المواطنين. فإذا اعترض المصريون على القرار المنفرد بالتنازل عن تيران وصنافير، فيكون مصيرهم الحبس الإنفرادي والتنكيل كما يحدث مع مالك عادلي ومحمود السقا وعمرو بدر وحمدي قشطة وزيزو عبده وهيثم محمدين والقائمة الطويلة من الشباب المصري الوطني المخلص الذين تمتلأ بهم السجون. والخوف كل الخوف هو عندما تبدأ آثار قرض صندوق النقد في التأثير على الغالبية العظمى من الفقراء المصريين، ألا يستجيب الرئيس السيسي لغضب الرأي العام، ويتراجع، على الأقل، عن الانفاق ببذخ على مشاريع لن يستفيد منها سوى الأقلية من الأغنياء كما فعل السادات ومن بعده مبارك. غالبية المصريين من الفقراء يا سيادة الرئيس، واذا كان السادات هو النموذج والقدوة الآن، فلتستفيد على الأقل من حساسيته تجاه الرأي العام.