أذكر جيدا هذه الجملة (إنهم يصدقوننا)، قالها لى ابنى ذات يوم تعليقًا على مدرسى المدرسة فى دولة أجنبية، كان معجبًا ومتعجبًا من فكرة الثقة المتبادلة بين الطالب ومدرسه فى الغرب، التى كثيرًا ما يحدث عكسها فى بلادنا. فإذا نسى طالب ما أداء الواجب فإنه يعاقب بنقص فى الدرجات إذا ما تكرر الأمر.. أما إذا نسى أن يحضر واجبه وأخبر المدرس بأنه قد نسى، فهو يصدقه ويمهله يومًا آخر لإحضاره دون عقاب. الأمر ليس بسيطًا إذا ما تصورته، لكنه مبدأ الثقة التى تتعامل به الحكومات غالبًا مع مواطنيها حتى يثبت العكس. سمعت أيضًا فى بلاد أخرى يسمحون لطالب الثانوية العامة الذى لم يحصل على مجموع الدرجات المناسب لدخول كلية يتمناها كالطب مثلا أن يدخل كلية الطب فعلا لكى يحقق أمنياته بشرط أن ينجح فى أول عام بها، وإلا فإنه يحوّل إلى غيرها، يعطون الفرصة للمرء أن يحقق طموحه.. اعترافًا منهم بأن الامتحان ليس كل شىء. الفرق بيننا وبين الغرب أنهم يدفعون الفاشل حتى ينجح، أما نحن فندفع الناجح حتى يفشل.. تلك إحدى مقولات العالم الجليل زويل، وهى صحيحة فى كثير من الأحيان، فهناك كثير من أبنائنا الطموحين هجروا وطنهم فور أن لاحت لهم الفرصة للخروج أو الهجرة لبلاد تستوعب عقولهم، وتبارك أبحاثهم ود. زويل واحد منهم. وقد التقيت ذات يوم بأحد الأطباء المصريين البارعين فى الغرب، وقد حقق نجاحات كبيرة، وفاز بما فاز من جوائز، فقلت له لعلك تشعر بقيمة التعليم فى كلية طب قصر العينى، فعلق منفعلا بأنه لم يتلق شرحًا وافيًا من أحد الأساتذة زمان، وإنما كان يذاكر الكتب بمفرده.. و أن نجاحه جهد خاص بتوفيق من الله، مع ذلك فإن كثيرًا من هؤلاء الأبناء لا يزالون يدينون بولاء لبلدهم حتى بعد السفر وتجدهم كثيرًا متطوعين بمحاضرات وجراحات مجانية لغير القادرين من المرضى فى مصر يأتون خصصيًا لأدائها وللمشاركة فى مؤتمرات دولية محلية. كذا كنا نتهجى، أ ب ى : أبى، أ م ى : أمى، م ع ل م ى: معلمى، وهكذا كنا نقرأ، وهكذا كانت مس بهجت - أول مدرسة ابتدائى تعلق صورتها بذاكرتى- تعلمنا القراءة، كانت تجعلنا نتهجى كل كلمة بشكل جماعى ثم ننطقها كلها قراءة وبهذه الطريقة البارعة تعلمنا العربية وهكذا علمت أولادى.. أذكر أيضًا مدرس العلوم الذى كان ينعتنا دائما بلفظ: ثيران.. ولم نكن ندرك معنى هذه الكلمة حتى كبرنا، ويرجع إليه الفضل فى كراهيتى لمادة العلوم.. كلما ما أذكره عنه: اسمه : أستاذ أديب.. والكنية التى كان ينادينا بها: (يا تران). مس إستر التى كانت تقوم بفاصل (تهزيق) يومى لبعض الأشقياء فى الفصل، وخاصة زميلنا أشرف، كان يتعذب كل يوم على يديها، كانت تضربه بعصا سميكة خشنة، أذكره وهو يبكى، كانت تتوعده بالمزيد وتقسم بأنه لو الله تعالى نزل إلى الأرض وطلب منها أن ترحمه ما رحمته.. لعدم أدائه الواجب الدراسى، أو لنسيانه إحدى كراسات العربى وهى كثيرة.. كنت أتساءل لماذا لا يشكى لأمه التى تحضر لتأخذه للمنزل كل يوم، وفى مرة حضرت أمه مبكرا وشاهدته يبكى بعد أن ضربته المعلمة، حمدت الله على أنها لا بد ستشكوها للمدير أو على الأقل ستعاتبها على ضربها ابنها عندما تعلم سبب بكائه، لكنها لدهشتى لم تفعل.. وقامت المدرسة تشكو لها فشل ابنها، وأنها ضربته على تقصيره.. فقالت الأم: افعلى فيه ماتشاءين كى (يتشطر)!!! اذكر معلم اللغة العربية، أستاذ عادل الذى كان يقدم لنا علمه مغلفا بأبوة جميلة، كان يشجعنا دائما، وأعجب ذات يوم بإجابتى عندما طلب منى شرح أبيات شعرية لإبراهيم ناجى، فشرحتها بأسلوبى وبشكل أعجبه، فتهللت أساريره، وقال لى: بسم الله ما شاء الله، فتح الله عليك يا ابنتى.. أذكر مدرسة اللغات التى لم تكن تنعتنى إلا بحبيبتى.. كم من معلم رفع طلابه إلى السماء، وكم من مدرس هوى بهم إلى سابع أرض فلم يستفيدوا منه شيئا.. ليست مسألة إمكانيات مادية ووسائل إلكترونية ومدارس جديدة وفصول أقل عددا، وإن كانت كلها عوامل مساعدة فى عملية التدريس، إنما المعلم هو الأساس، هو الذى ينير طريق التربية والتعليم فى كتّاب القرية أو فى مدارس اللغات. تحية إلى كل معلم احترم نفسه وأعلى من شأن طلابه.. تحية إلى عالمنا الجليل زويل الذى كرس حياته للعلم ولخدمة بلاده، تحية إلى أستاذى الكريم تحية إلى كل المعلمين الشرفاء المخلصين.