6 أشهر أو يزيد مضت على لقائي بإيمي سلطان. خطوتي الأولى نحو طموح كبير، بدا قبل تنفيذه لاعقلانيا، بعيدا عن "ملاعبي الآمنة" كما يقول أهل المهنة. رغم ذلك، الإقدام على إجراء الحوار، لم يكن بالمرة بصعوبة نشره، لا صعوبة المواجهة مع أنصار الثقافة التقليدية، لكن مدفوعا برغبة أن يكون الحديث عن الرقص جديدا، خارج النماذج الجاهزة بالفعل: تحية كاريوكا على وجه التحديد، التي اكتسبت "شرعيتها الثقافية" طوال العقود الماضية، من النص البديع لإدوارد سعيد في كتابه "تأملات حول المنفى"، ثم بالنص الذي كتبه وائل عبد الفتاح، وفيلم نبيهة لطفي عنها. صارت كاريوكا حلقة الوصل بين عالمي الرقص والثقافة، كاريوكا طوال الوقت هي النموذج والخيار الآمن لمد هذا الجسر. الراقصات بعد ذلك يقدّرن بالتقادم. اليوم، لم يعد أمرا مستغربا إبداء الإعجاب جهارا بسامية جمال أو نعمت مختار أو نعيمة عاكف، أو زينات علوي أو سهير زكي. في نهاية الأمر هو إعجاب "متأخر" قد يكون في بعض تفاصيله نوستالجيّا، "يا سلام علىالرقص زمان!" صحيح أن الاحتفاء بالرقص الشرقي كفن مازال مثار جدل، في هذا الوقت الذي صار الفن كله على هامش الاهتمام العام. بل إن الرقص مع المزاج المحافظ للدولة أصبح "رد سجون" بعد حبس راقصتين هما برديس وشاكيرا، في واقعة في الأولى في تاريخ مصر. هناك شيء يحدث خارج الصورة التاريخية. الصورة النوستالجية عن الرقص جزء صغير تماما من المشهد، الراقصات اللاتي ينتمين إلى ما اصطلح على تسميته "الزمن الجميل" لم يغلقوا هذا العالم الواسع، الرثاء على الحال صار فعلا ثابتا، النظرة للآني متعالية وعابرة وقيمية. سألت نفسي "ماذا عن بقية المشهد الآن؟". ما يعرفه الغالبية عن مشهد الرقص الشرقي الآن قاصر على دينا التي ترقص منذ 20 عاما، وفيفي عبده المعتزلة مؤخرا واكتائها بالخمسة مواه. قنبلة صوفينار ورجرجتها الموحية التي اهتزت لها مصر كلها. فضيحة شمس وسعد الصغير، حبس برديس وشاكيرا، محترفي الشعبيات ينظمون عالم "راقصة عارية تتحرش بالعريس" وما يشابهه على يوتيوب. قنوات فضائية تعرض فقرات لرقاصات يظهرن مرة ويختفين. من وسط هذه الفوضى الجمالية والقيمية، ظهرت إيمي سلطان على "فيسبوك" حالة فريدة، فلا هي بنت فضيحة، ولا نجومية "سبكية" في مشهد، راقصة فقط دون تذييلات وهوامش. من على صفحتها على فيسبوك، أرسلت إلى القائمين عليها طالبا إجراء حوار، لم يتأخر الرد، وتواصلت مع مدير أعمالها الذي -بدوره- حدد موعدا للقاء. هكذا ببساطة. "أول مرة ألاقي صحفي مش فني مهتم يتكلم معايا" تبادرني إيمي، لا من باب التعجب، بل الفضول والرغبة في استكشاف ما وراء هذا الإصرار على اللقاء، أحدثها عن طموحي في إجراء حوارات مع بعض الراقصات "الجدد" شيء ما خارج المكرر في الرقص. تقول إنها لا تعرف كيف سيكون الحوار، أخبرها إنني هنا لأدردش، عندي مواضيع عامة لا أسئلة محددة. "لو الاتهام إن الرقص الشرقي إيروتيك، فالفن كله إيروتيك" هكذا تبادر في بداية دردشتنا، لتغلق تماما علي باب الجدل القديم حول ما إذا كان الرقص الشرقي فنا أو لا، و”الاتهامات” بإثارته للغرائر، وهو ما لاتعتبره اتهاما.. "أنا نفسي أتكلم عن الرقص من الناحية الفنية، كما مللت من الأسئلة التقليدية حول ذهابي احترافي هذه المهنة، وكأنه "اضطرار" لتثبيت نفس الصورة السينمائية عن الرقص والراقصات". تحكي إيمي عن نفسها، انطلاقا مما يُحكى ويكتب عنها في وسائل الإعلام المختلفة: "هناك خطأ كبير يقال عني، إني كنت أعمل مهندسة، ويقال أحيانا إنني تركت دراستي في الهندسة، حقيقة الأمر إنني لم أعمل بالمرة كمهندسة، كل ما هنالك إني اتخرجت من كلية فنون جميلة، وعادة خريج الفنون الجميلة وقسم الديكور تحديدا يقال عنه "مهندس" فأصبحت مهندسة". توضح إيمي بداياتها وعلاقتها بالرقص عموما، وأنه ليس غريبا عن عالمها قبل أن تكون راقصة شرقية "أنا كنت باليرينا، منذ كان عمري 15 عاما، كنت معينة في الأوبرا، وكنت أسافر وأشارك في حفلات رسمية داخل وخارج البلاد.. نحن في الباليه ننوع كثيرا في التمرين، لذلك درست رقص الجاز والرقص المعاصر مع الباليه، كلما تعلمت تكنيكات أكثر كلما كان أفضل لمهارتك في الباليه". وعن بدايتها مع الرقص الشرقي تقول "في إحدى سفرياتي، في تركيا، كنت في مطعم من المطاعم التي تقدم فقرات فنية، ووجدت الناس ترقص، ولم أكن ذهبت في حياتي إلى كباريه في مصر، ومثل أي مصري عندي انطباع عام سيء عن الكباريه.. لكن في تركيا هناك بعض المطاعن تقدم عروضا فنية منها رقص شرقي، يومها صفق الناس لي لأطلع على المسرح، ولم أكن قد جربت من قبل أن أرقص رقصا شرقيا، لكن الاستقبال الرائع من الناس والتصفيق جعلني أسأل نفسي لماذا لم أجرب أن آخذ "كورسات" في الرقص؟" "عندما نزلت من على المسرح وبعد ردة الفعل الرائعة، سألني الناس عن جنسيتي، وانبهروا تماما عندما عرفوا أنني مصرية وقالوا لي، هذه بلد الرقص الشرقي، زاد فضولي كثيرا وعندما عدت إلى مصر بدأت أبحث عن مدرسة للرقص الشرقي ولم أجد." "وجدت مدارس لجميع أنواع الرقص الغربي، ولا مدرسة واحدة للرقص الشرقي أو مدرسة للفنون الشعبية، وبعد طول بحث، تعرفت على سيدة برازيلية عرفتني على راقصة برازيلية اسمها ثريا وهي مشهورة في مصر، قدمتني الصديقة البرازيلية إلى ثريا، والتي قامت بدورها بتعريفي على راقية حسن، ولم لا يعرفها فهي واحدة من أهم معلمات الرقص في مصر والعالم كله، هي من علمت دينا، وعلمت عزة شريف وغيرهن من الراقصات." ذهبت إلى راقية، وفتحت لي عالما موازيا لم أكن أعرف بوجوده، اكتشفت أن في مصر تقام مهرجانات طوال العام في الفنادق الكبيرة ولا أحد يعلم عنها شيئا، تكاد أن تكون مهرجانات "سرية". وجدت نفسي منغمسة تماما في هذا العالم، آخذ تدريبات لمدة 8 ساعات يوميا، ولمدة 15 يوما متواصلة. بعد الدورة المكثفة مع راقية حسن صرحت لها إنني لا أريد -فقط- أن أتعلم وأريد أن أحترف الرقص الشرقي، تعجبت عزة للغاية من قراري مع معرفتها برقصي للبالية في الأوبرا، ولما استشعرت جديتي وليست نشوة الاشتراك مع 300 راقصة من كل أنجاء العالم. عرفتني على طبال وعلمتني كيفية التفاعل معه ومع الفرقة الموسيقية كلها، وكانت البداية. في بادئ الأمر، كنت أجمل بين رقص الباليه في الأوبرا، وأتدرب مع الطبال والفرقة كل يوم، وهو مالم أستطع إكماله. كنت أخرج من عروض الباليه إلى التمرينات، لكن تدريبي في الباليه كان ضد تدريبي في الرقص الشرقي والعكس، الرقص الشرقي عبارة عن حركات وجسم مرتبطان بالأرض بأقدام حافية، أما في الباليه يكون كل الجسم مرفوع ومشدودا. لم أستطع التوفيق بين الاثنين، فقررت أخيرا ترك الباليه والتركيز على الرقص الشرقي. *** في حديثها كله، لا تدعي إيمي صياغة الملاحم، ولا هي مشغولة بالكليشيه لا تقويضه ولا تكريسه. كان باب دخولها إلى هذا العالم حب الاستكشاف، ولا تبدو مشغولة في طرح صورة "نخبوية" عن أكثر الفنون الأدائية شعبية في مصر. تحكي إيمي قصتها مع الرقص من مدخله المنسي؛ الاستمتاع. التحرر القيمي من نقيضين: تقييد الجسد بثقل أخلاقي متخيل عن حرمة الجسد، أو رجرجة مفاتنه دون الانشغال بلوحته الفنية. الاستمتاع لا يحرر من القوالب فحسب، بل يربك المتمسكين بها. يرى نيتشه إن الكشف عن تعبيرية الجسد والتوق إلى متعة الرقص يحرر اللغة ذاتها من قيمها القديمة، انتصارا الخيال. كما أنه تحرر من وهم الدلالات المسبقة الثابتة وتعيد إنشاء اللغة العالم من خلال الإبداع. إنه التحام الجسد بالعالم، المعرفة المرحة. تقول إيمي إن الرقص الشرقي ليس أقل قيمة من الباليه ولا أكثر منه قيمة، لكل منهم عالمه، وفضاءه الجمالي الخاص، ولكل منهم تقنياته التي تحتاج تدريبا وممارسة مستمرة. بدايتها الاحترافية كانت "صدفة" وقت أزمة ارتداء صوفينار بدلة رقص بألوان علم مصر، وهو ماأثار حفيظة مدمني الوطنية الشكلية، ما نتج عنه منعها من الرقص في أحد فنادق القاهرة النيلية، لتجد إيمي نفسها مطروحة بديلة لصوفينار.. تقول "وجدت نفسي لأول مرة كراقصة محترفة أرقص في المكان الذي ترقصت ورقصت فيه دينا وصوفينار" فكانت التجربة كبيرة، والانطلاقة لفتت أنظار الصحف والقنوات التلفزيونية، وبدأ اسمي يتردد. ** الإيروتيكا ليست اتهاما، والوقوف عندها في واحدة من تأويلاته هوس مبالغ به، وكأن الجسد محصور في هذه النظرة الضيقة، والفن لا يمكن عبورها بسلام. رغم ذلك لا تعتبر إيمي أن "اتهامات" الإغراء تشغلها سلبا أو إيجابا. هي تعتبر نفسها من مدرسة سامية جمال، الاعتماد على المساحات الكبيرة للأداء، لا الاقتصاد في الحركات كما في رقص كاريوكا. ساحة الرقص تأتي في المرتبة الأولى عند إيمي، تقول إن الرقص على المسرح يسمح لها بحرية كبيرة في التحرك والقيام بما تحبه وبالطريقة التي ترتاح إليها، على عكس الأفراح التي يعتبرها الحاضرين جزءا منهم، لا فنانة تقدم لوحة فنية، لذلك تتحدد تحركاتها. إيمي تحب المسرح، تراه مكان سلطتها الكاملة، ليست جزءا من احتفالية كما في الأفراح أو الملاهي الليلية تمثل فيه مجرد حلية إضافية، بل هي نجمته الوحيدة، العيون مع حركتها، والأيادي تصفق بعد انتهاء اللوحة. تفكر كيف يمكن تحويل المسرح إلى ساحة دائمة للرقص الشرقي، ترى أن في ذلك "تفكيرا خارج الصندوق" ولا تحبذ فكرة أن تكون نجمة فيديو كليب، أو جزءا من فيلم، ولا تريد أن تكون ممثلة، كل ذلك "لا يضيف لهذا الفن شيئا، بل يؤكد على هامشيته" تبحث عن الصيغة الفنية التي يكون الرقص الشرقي مركزه، ولذلك ترى في خشبة المسرح، الأوبرا تحديدا إضافة شرعية وقوية له. وتتساءل: "كل أوبرات العالم تقدم رقصاتها المحلية بلا مشاكل، إلا في مصر، الأوبرا محضورة فيما هو غربي فقط، ويبدو أن التفكير في وجود لوحات رقص شرقي على خشبته ضربا من الخيال بعيد المنال". ** كل هذا المرح، والرغبة في نقل استمتاعها بالرقص، لم يهتز بالصورة النمطية عن الراقصة كواجهة مقنعة لبائعات الهوى.. تضحك عند طرح هذا التساؤل، وتقول "الجميع يعاملني بلطف وبعيدا عن هذه الصورة النمطية، لكن كما لو كانوا "مستنيين لي على غلطة"، و حتى مع المعاملة اللطيفة والكتابة الجيدة في الصحف، مازالت النظرة العامة للرقص الشرقي غير لطيفة. كأن الجميع ينتظر أن ينشر عني شريط جنسي ما. نعم كثيرون يحبون الرقص الشرقي ويرونه فنا جميلا، لكنه غير مقبول اجتماعيا في أوساطهم القريبة وعائلاتهم، وبوعي جمعي أن الراقصة بالضرورة سيئة السمعة". وتضيف "أصدقائي حذروني في البداية، بسبب الطبقة التي أنتمي إليها، هذه أيضا من الصور النمطية عن الثقافة التي تخرج منها الراقصة وحاجتها إلى المال وما إلى ذلك.. أصدقائي حذروني خوفا علي من كل المشاكل التي تواجه الراقصات، ولو أن السمعة تقاس "بحجم القماش" فأحيانا في الباليه كنا نرتدي ملابس أقل" “تضحك" هذه النظرة يجب أن تتغير. *** عندما تقف إيمي على الخشبة، منتظرة بدء الموسيقى، تقول الكثير في ابتسامتها واندماجها مع وجودها الآني.. تطلعها لتقديم جديد غير مشغول بثقل القديم، ولا مهووس "بتثوير" الفن نفسه، تطلع إلى المرح الخالص، انغماس الجسد في بهجته الحركية. "داومن على الرقص أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدوا لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح. وهل لي أن أكون عدوا للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الرشيقات؟" نيتشه، هكذا تكلم زرادشت. *** 6 أشهر مضت، كانت المقابلة تبحث عن لغة تناسبها، أتمنى أن تكون قد وجدتها.