"أرسم موضوع عن حرب أكتوبر توضح من خلاله بطولات الشعب المصري في ذلك اليوم العظيم". بالطبع سيتذكر كثير منا هذه الجملة، التي تكررت كثيرا في حصص مادة الرسم، وامتحاناتها طوال سنوات الدراسة. وقد تعيد إلى أذهاننا كيف كان يجسد كل منا انتصار أكتوبر من خلال رسومات بسيطة، التي بالرغم من تواضع مستواهها الفني لكنها كانت تعكس فخرنا واعتزازنا بهذا اليوم العظيم. لكن على الناحية الأخرى، أشك أن يتذكر أحدنا أي من المعلومات التي درسناها عن حرب أكتوبر من خلال مناهج وزارة التربية والتعليم، ليس لأننا لا نعتز بهذا النصر وأبطاله، ولكن لأننا لم ندرس عن ذلك اليوم سوى أرقام وتواريخ نحفظها ثم نفرغها في ورقة الامتحان، لتتلاشى تدريجيا لتفسح المجال لمزيد ومزيد من الحفظ والتسميع. هكذا تعلمنا عن حرب أكتوبر، وعن أشياء كثيرة أخرى، وفي كل عام بدلا من أن يزداد الدرس عمقا ليتناسب مع نمو عقولنا، كانوا فقط يلقنونا المزيد من الأرقام والتواريخ وأسماء المدن والمواقع، لنحفظها كما نحفظ كل شيء، ثم نسمعها مرة أخرى في الامتحان. كنا نبذل مجهودا لكي نحفظ مجموعة من الحقائق التي يستطيع أي شخص يستعمل الإنترنت أن يسترجعها في ثوان، لكن ما لم يعلموه لنا هو كيف نفكر، كيف نستفيد من تلك المعلومات والحقائق، كيف نقيم الحرب ونتعلم منها دروسا، كيف نعتز بأبطالنا ونخلد سيرهم.. لم يعلمونا سوى أن نسمّع الإجابة النموذجية، بالرغم من إن الحياة والتاريخ يثبتان لنا كل يوم أن الإجابة النموذجية لا مكان لها على أرض الواقع. تمر السنين وتتسع آفاقنا ثم تقتحم الإنترنت حياتنا، ويصبح بحر من المعلومات متوفر لكثير من أبناء جيلنا، لتنابنا حالة من الصدمة عندما أدركنا أن هناك الكثير من الحقائق حول كل شيء لم نكن نعرفها، أننا لم لا نعرف نصف الحقيقة حول أشياء كثيرة كنا نظن أنها من المسلمات. لأننا لم نتعلم كيف نستفيد من كم المعلومات المهول التي درسناها، لم نتعلم كيف نستعين بها لتكوين وجهات نظر متزنة، لنكتشف أن لكل حادثة وموقف وشخصية وجوه أخرى غير التي درسناها في كتب الوزارة. ويتسبب فيضان المعلومات في حالة من التخبط والارتباك، فتستطيع معلومة بسيطة - لم نكن نعرفها - أن تغير وجهة نظرك في قضية بأكملها، لأنك تعودت أن لكل شيء وجها واحدا فقط. إن حالة الجدل والبلبلة وكم المعلومات المغلوطة التي تنتشر كل عام في مثل ذلك اليوم تفضح ضعف وإنعدام كفاءة نظام التعليم المصري. إننا لم نتعلم كيف يتسع الموضوع الواحد لعشرات الحقائق المتباينة، كيف تحتمل وجهة النظر الواحدة الصواب والخطأ، كيف يمكن أن يكون السادس من أكتوبر نصرا وبالرغم من ذلك يمكن استخراج منه عشرات الدروس والأخطاء التي يجب التعلم منها وأخذها في الحسبان حتى لا نكررها مرة أخرى. كيف يمكن أن يكون لكل محافظة وقرية ومدينة وطالب مجموعة من الأبطال الخاصة من المشاركين في هذه المعركة دون أن يقلل ذلك من قيمة الحدث في شيء. إن نظام التعليم لدينا يقضي على أي فرصة يحاول من خلالها الطالب أن يطور مهارات التفكير النقدي الذي صار جزءا أساسيا من معظم أنظمة التعليم حول العالم، ثم يلوموننا على أننا غير قادرين على الإتيان بحلول خارج الصندوق، دون أن يلاحظوا أن نظام التعليم لدينا مصمم ليسجن العقول داخل ذلك الصندوق. أدخل الآن على مواقع التواصل الاجتماعي وشاهد حالة التخبط والتشكك لدى كثيرين من الشباب حول نصر أكتوبر. فبعيدا عن المتأثرين بانتمائتهم السياسية (وهم أيضا من ضحايا نظام التعليم)، فمن المبرر أن يشك شاب في كل ما يعرفه عن بطولات حرب أكتوبر إذا كانت المرة الأولى التي يسمع فيها عن الثغرة. وقد يفقد إيمانه بأننا انتصرنا إذا كانت المرة الأولى التي يعرف فيها أن خسائرنا البشرية كانت أضعاف خسائر الإسرائيلين، كل ذلك مبرر ولا يجب أن نعتبر هؤلاء الشباب عديمي الوطنية والإنتماء كما يظن البعض، فليس ذنبهم أن مناهج وزارة التعليم لم تشمل تلك المعلومات بالشكل المناسب ضمن الأرقام المنمقة الوجودة في كتاب الوزارة. ليس ذنبنا أنهم لم يعلمونا كيف نقيم الحرب بأنفسنا، كيف نجد أمثلة أخرى لانتصارات كبيرة في معارك عدة لم يكن ميزان القتل في صالح الفائز أيضا لنثبت لأنفسنا قبل الآخرين حقيقة ذلك اليوم. عزيزي القائم على تعليم أبنائنا، إذا كنت تريد أن يتحلى الأجيال القادمة بالوطنية والانتماء فنمى لديهم القدرة على تكوين رأي بأنفسهم بدلا من أن تقرر لهم ما هو الصواب، حصنهم بالقدرة على التفكير النقدي حتى لا تصبح معلومة مغلوطة يروج لها أصحاب أتجاهات معينة خطرا على انتمائهم، علمهم أن يختاروا لأنفسهم وأن يبحثوا بأنفسهم عما يريدوا أن يعرفوه، حينها فقط أعدك أن عقولهم لن تنسى ما جمعوه بأنفسهم من معلومات حول هذا اليوم العظيم. هل تعرف من أين تبدأ؟ أطلب من كل طالب أن يختار شيئا نال إعجابه وآخر لم ينال إعجابه في حرب أكتوبر، دون أن يكون للسؤال إجابة نموذجية.