فى العمل الوظيفى مهما كانت طبيعته مدنية أو عسكرية يقابل الإنسان دائمًا زملاء ورؤساء أو قادة بلا حصر طوال رحلة العمل، منهم مَن لا يتذكرهم ولا يتركون أى أثر فى خبراته العملية والحياتية حتى وإن كانت العلاقة بهم لا تشوبها شائبة. وهناك آخرون -لا سيما من القادة- يحفرون عميقًا فى الوعى ويتركون لدى مرؤوسيهم ميراثًا قيّمًا ونافعًا من الخبرات وقدرات على ممارسة المهام والمسؤوليات بأداء صحيح وفى مرتبة عليا من الرؤساء والقادة. يأتى على القمة رجال يندر أن يجود بهم الزمان، يحكمهم الشرف ويتّصفون بالأمانة والنزاهة فى قيادة المرؤوسين وتحقيق طفرة فى التطوير والإنجاز مع قدرة فذّة على انتقاء الكفاءات وتفجير طاقات الإبداع بين الموهوبين. طوال خدمتى فى القوات المسلحة لم أقابل حتى تقاعدى فى رتبة العميد سوى قائد واحد من أولئك الذين نادرًا ما يجود بهم الزمان من القادة ذوى الطراز الرفيع، والذى ترك علامة مضيئة فى حياتى ولا أكون مبالغًا إن قُلت وكل مَن عملوا مع هذا القائد الجليل اللواء أ.ح/ سمير فرج، وكان لى حظ الخدمة تحت قيادته فى تسعينيات القرن الماضى فى إدارة الشؤون المعنوية عندما عُيِّن مديرًا لها، وكنت وقتها فى رتبة المقدم ومعروف عنه أنه طوال فترة خدمته كان ضابطًا متفوقًا ومتميزًا، ويحتل دائمًا المركز الأول فى فرقه الدراسية ويحقق بالوحدات التى يقودها نفس الترتيب فى المشروعات والمسابقات، إضافة إلى أنه حجة فى العلم العسكرى، ومن شدة ذكائه ولمعانه شاعت فى كلية القادة والأركان مقولة إن مَن لم يقم سمير فرج بالتدريس له فى محاضرات مادة التكتيك فإنه يعتبر كمن لم يدرس هذه المادة، وبلغ من براعته ونبوغه فى العلم العسكرى أنه فى أثناء فترة وجوده فى بريطانيا بعد حرب أكتوبر دُعى لمباراة حربية (المباراة الحربية نزاع عسكرى افتراضى بين طرفَين، الغرض منها التدريب أو قياس قدرات القادة، بعد أن أصبحت إدارة العمليات الحربية فى العصر الحديث تتسم بالتعقيد الشديد ويدير المباريات طاقم من الخبراء)، وكان الطرف الآخر المنافس له الجنرال «آرييل شارون»، وكان نجمًا عالميًّا وقتها يُدعى للندوات الدولية والمحاضرات وورش العمل باعتباره خبرة عسكرية كبرى ولم يكن سمير فرج وقتها جنرالًا، كان فى رتبة المقدم أو العقيد ولم يكن معه طاقم بحوث عمليات أو مساعدين مثل ذلك الموجود مع خصمه، فهو كان مفردًا دون أى مساعدين، ويومها أبلى فرج وأبدع وتفوَّق على خصمه ذى الصيت الدولى، وكانت هذه المفاجأة حديث الدوائر المتخصصة عالميًّا فى المجال العسكرى. عندما عُيّن مديرًا لإدارة الشؤون المعنوية قفز بها قفزة واسعة لم تحققها من قبل أو بعد فى كل المجالات التى يناط بها لهذه الإدارة ولم يحدث مطلقًا أن ولى رئاسة أى فرع فى الإدراة لضابط لا يمتلك الجدارة فى المجال الذى سيعمل فيه، وكان فرج يمتلك من الجرأة والشجاعة أن يقبل بأفكار من خارج الصندوق، وأن يساند مرؤوسيه بالخوض فى تجارب غير مسبوقة، ولا أذكر أن أيًّا من الرؤى الجديدة قد باء بالفشل وكان من طبيعة العمل فى إدارة الشؤون المعنوية الانفتاح على جهات مدنية كثيرة، كالصحافة واتحاد الإذاعة والتليفزيون والجامعات.. وغيرها، وفى هذه الفترة نمت وتطورات العلاقة بين القوات المسلحة والقطاعات المدنية إلى مدى لا مثيل له من التعاون وتحقيق المصالح الوطنية العليا والارتقاء بها، وكان مَن يعملون معه يدهشون طوال الوقت على قدرته اللافتة فى سرعة اتخاذ القرار عندما تعرض عليه مشكلة أو يُقدم له مقترح، ودائمًا ما يكون القرار صحيحًا والأصوب والأكثر إحكامًا. بعد انتهاء الخدمة العسكرية تولَّى رئاسة الأوبرا المصرية، وبنفس المنهج والقدرات الشخصية أعاد هيكلتها وأحدث نقلة نوعية فى أساليب إدارة هذا الصرح الفنى لتعزيز دور الفنون والإبداع، ثم تولَّى بعد ذلك رئاسة مدينة الأقصر وتحوَّلت فى عهده إلى محافظة، ووضع خطة عملاقة لتطوير المدينة لتحويلها إلى مركز سياحى عالمى لما تحتويه من كمية آثار باهرة لا مثيل لها فى مدينة واحدة فى العالم، وكان شجاعًا فى دخول «عش الدبابير» الذى لم يجرؤ أحد من قبله على الاقتراب منه، حيث قام بإحياء طريق الكباش، والبدء فى إعادته إلى الوجود من خلال القرارات الجريئة التى قام بها فى نزع الأراضى والعقارات الواقعة فى مجراه، وبلغ من مجد هذا العمل أن وزيرًا أسبق للآثار قد افترى عليه بسبب الغيرة وادَّعى فى المحافل الدولية أن الجنرال يدمّر الآثار، وتعطَّل المشروع بعد انتفاضة 25 يناير، وأخيرًا تم الرجوع إلى مشروعه، لأنه الأفضل. يبقى أخيرًا أن أنوّه بأننى لم أهاتف الرجل أو أراه منذ قرابة 15 سنة، وأن ما أدين له به هو ما تركه لدىّ من علم وخبرة ومبادئ، وذكّرنى بقائدى المبجل توجيه المهندس محلب، رئيس الوزراء، فى زيارته منذ أيام للأقصر بسرعة الانتهاء من طريق الكباش