لم يعد من الغريب أن نشير إلى أن انبثاق النهضة وتطورها فى مصر شارك فيه كثيرون من مصر ومن خارجها من الذين لجؤوا إليها هربا من أوطانهم التى ضاقت عليهم، وراحت تعب فيهم حبسًا واعتقالًا وتقتيلًا ومحاكمة. حيث إن الاستبداد الذى كانت الدولة الحميدية (فرح أنطون الشامى ونهضة المسرح المصرى نسبة إلى السلطان عبد الحميد فى تركيا العثمانية) تنشره وتؤكده، جعل غالبية المثقفين والكتاب الأحرار يفرّون إلى خارج بلاد الشام، منهم من ذهب إلى المنافى الأوروبية أو الأمريكية مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجورج صيدح وخليل سعادة وغيرهم، وصنعوا هناك فكرًا وثقافة وأدبا، وأسسوا الرابطة القلمية، وتمكنوا من خلق تيار أدبى وفنى، أطلق عليه النقاد فى ما بعد «أدب المهجر». ومنهم من جاء إلى مصر، منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل يعقوب صروف صاحب مجلة «المقتطف»، الذى أصدر عددها الأول فى بيروت، وعندما تعذر إصدار العدد الثانى هاجر إلى القاهرة، وأصدر العدد الثانى فى عام 1886، واستمرت المجلة تصدر شهريًّا حتى أواخر الأربعينيات، واستمرت بعد أن رحل عام 1928، ليتولى إصدارها فؤاد صروف، وبعد عودته إلى لبنان يتولى تحريرها إسماعيل مظهر، ثم نقولا حداد، حتى توقفت فى عام 1949 لأسباب ربما تكون فنية أو اقتصادية. وعلى غرار يعقوب صروف جاءت عائلة تقلا، التى أسّست صحيفة «الأهرام» فى «الثغر» أى الإسكندرية، وكان يعمل معهم الشاعر خليل مطران، وكان محررا صغيرا، ثم عمل مترجما ومؤلفا لبعض الروايات، وكذلك جاء جورجى زيدان، وعبد الرحمن الكواكبى، ومحمد رشيد رضا، ونقولا حداد وفرح وروز أنطون. ولكل هؤلاء وغيرهم مساهمات رئيسية فى نهضة الثقافة والمسرح والشعر والصحافة والفن عموما، وكان دور فرح أنطون ضالعا فى تلك النهضة، خصوصا أمر المسرح، ويكتب الشاعر صلاح عبد الصبور مقالا لافتا فى مجلة «روزاليوسف»، بتاريخ 31 يوليو سنة 1961، عنوانه «الملحن بالقبقاب»، وتعرض فيه لنشأة فن المسرح فى مصر، موضحًا أنه بدأ منذ سنوات بعيدة قبل أن يشرع توفيق الحكيم فى الدخول إلى عالم المسرح، وفى سياق المقال توقف عند الكاتب والفنان الشامى فرح أنطون، إذ قال: «وكان المؤلف المسرحى العربى فرح أنطون ظاهرة فى تدعيم المسرح العربى، فقد ألف كثيرا من المسرحيات التى استمد موضوعاتها من واقع الحياة العربية فى مصر، وأهم هذه المسرحيات هى مسرحيته (مصر الجديدة ومصر القديمة) التى مثلت لأول مرة فى عام 1913، وطبعت فى ذلك الوقت، بعد أن قدّم لها مؤلفها بمقدمة لامعة، تتناول مشكلات التمثيل والتأليف والمذاهب المسرحية». ولأنطون عدة مسرحيات أثرت الحركة المسرحية آنذاك بامتياز، ومن تلك المسرحيات «البرج الهائل»، و«ابن الشعب»، و«الساحرة»، و«أوديب الملك» و«المتصرف فى العباد»، و«صلاح الدين»، وقد قام بتمثيلها جميعا الفنان جورج أبيض. هذا الفنان والكاتب الطليعى الذى لم يعش أكثر من ثمانية وأربعين عاما، مولود فى عام 1874، ورحل فى يوليو 1922، ترك تراثا هائلا فى المسرح والرواية والفكر، غير أنه أصدر مجلة فى غاية الأهمية، وهى مجلة «الجامعة»، وقد شهدت هذه المجلة محاورات ومناقشات فى غاية الأهمية، وكان أنطون متدربا على تلك المحاورات، إذ إنه كان قد دخل فى مناقشة عميقة مع الشيخ الإمام محمد عبده حول فلسفة ابن رشد. ومن روايات أنطون «أورشليم الجديدة»، و«مريم قبل التوبة»، و«الوحش الوحش الوحش»، و«الدين والعلم والمال»، كما أن له ترجمات عديدة، أبرزها «نهضة الأسد» للفرنسى إسكندر ديماس، وقد نقلها عام 1910، ولا أعرف هل تمت إعادة نشرها أم لا؟ لكننى كلما أعدت قراءتها فى طبعة عام 1910، أدهشنى أسلوبه المعتدل، ولغته الرشيقة. وكان صلاح عبد الصبور قد أورد مقطعا مهما من مقدمة أنطون لمسرحيته «مصر القديمة ومصر الجديدة»، وأعلن افتنانه بالمسرحية، وبالفعل كانت الفقرة التى اقتبسها عبد الصبور، دالة على وعى مبكر بمشكلة اللغة، إذ يقول أنطون: «وأول ما أريد بسطه قضية اللغة فى هذه الرواية.. وقد دعوتها قضية، لأنى بعد التجربة رأيتها كذلك، وإليك البيان، إنما مجلس التمثيل (المرسح) أو المسرح أو الملعب، مجلس الناس يقلدون غيرهم، فإذا كانت الروايات معربة صح جعل اللغة العربية الفصحى لغة لها، بحسبان أن الرواية حال قوم لغتهم أعجمية، ولنا حق اختيار اللغة التى نجعلها قالبا لتلك الحكاية، لكن إذا كانت الروايات تأليفا وإنشاء وموضوعا شؤون لغتهم المحكمية اللغة العربية العامية، وجعلنا لغة هذه الروايات اللغة العربية صرفا خرجنا عن الطبيعة التى ما أنشئت الروايات التمثيلية إلا لتقليدها»، ويسترسل أنطون فى عرض مشكلة اللغة التى تناسب أو لا تناسب روح الشخصيات، وآثر هو فى ما كتب أن يختار لغة وسطا، يستطيع بها أن يعبر عن الطبيعة الحقيقية لشخصيات رواياته. وأعتقد أن هذه المناقشة التى أراد أنطون أن يفجر بها قضية ما زالت تشغلنا حتى الآن، تكررت كثيرًا فى كتابات نقدية فى ما بعد، خصوصا فى ما كتبه عبد العظيم أنيس فى كتاب «فى الثقافة المصرية» عن رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ. وإذا كان عبد الصبور قد تحدث عن مسرحية فرح أنطون بإعجاب شديد، وربما بفهم غير متخصص فى شؤون المسرح، إلا أن الدكتور على الراعى، كتب عن تلك المسرحية باحتراف، وكشف عن بعض التناقضات التى وقع فيها المؤلف فى مقدمته، وعزا الراعى ذلك إلى طبيعة البدايات العظيمة، فهى دوما تنطوى على تلك المشكلات، وهذا لم ينف (عند الراعى) أهمية هذه المسرحية، ودور فرح أنطون فى نهضة المسرح المصرى.