(1) تنتهى الجلسات والحوارات والسهرات فى القاهرة بعنوان واحد: «فساد الأمكنة». ومعها تستعاد رواية صبرى موسى، ويطل وجهه من كهف عزلته. حيث يقيم فى المدينة ولا يقيم/ هو هنا وليس هنا.. يعيش على سفر. عندما تجلس معه تشعر كما لو كان فى مكان آخر. يشبه «نيكولا» بطل «فساد الأمكنة» الذى «يسرق المعرفة من بحر التجوال». تضيق القاهرة/ رغم اتساعها/ ليس لأنها تقترب الآن من أن تتحول إلى جراج كبير ولا لأنها فقدت هندستها القديمة/ رغم خضوعها للقمع وتعيش هندسة انتقالية/ هيولية باتجاه مجهول يتجول فى أحشاء مكتظة. جنون القاهرة اللذيذ/ والحياة فى فوضاها باستمتاع/ تحوّلا إلى مواجهة مع محاولات الفوضى القبيحة/ انفلات الرغبات المتوحشة متوازيًا مع «تكريس» القائم بعد تنظيفه. الهرب من «فساد الأمكنة» إلى أماكن بكر/ مثل جنوبسيناء/ ومنتجعات على ساحل البحر الأحمر/ هجرات داخلية تتوازى مع إلحاح الهجرة إلى الخارج والبحث عن مكان «يقدم خدمات ورفاهية دون إزعاج»، كما قال شاب لا يفتقد النجاح/ ولا اليسر المالى/ لكنه يخاف من «الانهيار» الحالى/ والمتوقع زيادته/ أو أنه يعانى من صدمة بعد ارتفاع سقف التوقعات. (2) فى المدينة آلهة قديمة/ متخلفة خرجت بعد سقوط النظام لتنقذ الهيكل/ باعتبارها الأقدر على الحركة والأكثر معرفة بمفاتيح الغرف السرية لتشغيل الحياة. عملية آلهة التخلف لإنقاذ المدينة من التغيير/ أو تحجيم التغيير تحيل القاهرة إلى ساحة حرب غير معلنة/ دافعة للهجرة من مكان يستسلم/ بعد ثورته. وهنا يستعاد صبرى موسى وروايته/ والأكثر من ذلك أنه يتحول إلى طرف/ شخصية بحكايته الحزينة التى وقعت منذ عام أو أكثر عندما رفض مع مستشفى قصر العينى «الفرنساوى» استقباله لعلاج ساق تأثرت بالجلطة الدماغية. الخبر لم يشرح أسباب الرفض «غالبا ليست مالية»/ لكنه أضاف سببا للهجرة قبل أن يتحول «فساد الأمكنة» إلى كابوس خارج المنامات. (3) فى ربيع عام 1963 أمضى ليلة فى جبل الدرهيب بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان.. كانت رحلة صبرى موسى الأولى للصحراء.. وفى تلك الليلة ولدت كيمياء غامضة مع المكان. الزيارة الثانية كانت فى أثناء رحلة إلى ضريح «المجاهد الصوفى»، كما يصف، أبو الحسن الشاذلى، المدفون فى قلب هذه الصحراء. وفى تلك الرؤية الثانية للدرهيب أدرك صبرى موسى أنه يحتاج إلى معايشة الجبل والإقامة فيه... وافقت وزارة الثقافة على تفرغه والإقامة فى الصحراء حول الجبل من تشرين الثانى 1966 إلى تشرين الثانى 1967. سنة كاملة كان حصادها «فساد الأمكنة»، التى تعتبر واحدة من أهم الروايات العربية فى الثلاثين سنة الأخيرة. «أنا رجل عادى على وجه التقريب. وجميع غرائزى تطل برأسها من داخلى فى حذر، وهى ترمق قوانين المجتمع بنصف عين». هذا هو بطل رواية صبرى موسى الأولى، والرواية هى تاريخه السرى، أو ماذا حدث عندما التقى الرجل العادى امرأة فى أوتوبيس متحشرج.. اللقاء فتح ملفات القيم والأفكار.. الجنس الخاطف فى شقق العزوبية. صبرى موسى بحس صحفى ولغة أدبية مكثفة. التقط الخيط من محطة أوتوبيس وتحدث عن مغامرات العزاب فى شقق يتبادلون مفاتيحها «أو بتعبير الرواية بيوت لا نملك مفاتيحها». وعن التجربة الأولى للفتاة مع «رجل مجهول». بدت دائمًا ظروف ولادة صبرى موسى فى قارب فى رحلة النيل بين دمياط ورأس البر «مارس 1934» متحكمة فى مزاجه النفسى المحب للسفر والرحلات، غير المستقر. وهى تركيبته الداخلية، كما تكشف عنها أعماله، وكما يبدو ضدها فى مظهره الهادئ غير المبالى. بدت فى روايته «فساد الأمكنة» خشونة المثاليين الذين يرون فى الرسائل الكبرى ذروة ضد شهوات ومطامع الحياة. كما أن نيكولا بملامحه القريبة من أبطال العهد القديم والمتماثلة مع هواة تعذيب الذات فى الثقافة الشيعية للوصول إلى المثال الكامل. تقصى صبرى موسى طريق جورج أورويل فى رواية تخيل المستقبل. ومزج بين طرافة الخيال والفزع من المصائر السياسية والاجتماعية. لا يمكن طبعًا أن ننسى «نيكولا» و«إيليا» فى «فساد الأمكنة». نيكولا لا وطن له.. هاجرت عائلته وهو طفل فى العاشرة من إحدى المدن الروسية الصغيرة. استقر نيكول بعض الوقت فى مدينة إيطالية.. هناك قابل إيليا: «امرأة قوقازية مهاجرة.. كانت تدير مطعمًا مع أبيها على الشاطئ.. وكان أبوها جلفا غليظ الخلق يضربها أمام الزبائن.. حين جاء نيكولا يطلب عملا.. أعطته نفسها فى مؤخرة مخزن الأدوات بالمطعم.. دون أن يطلب.. وبرغبة فى امتلاكه». كيف سيحلق الهائمون الحالمون بالهجرة من «فساد الأمكنة»؟