رغم أن القرن العشرين شهد تطورا مذهلا فى إنجازات تخص اللهجة العامية المصرية، وأزجال بيرم التونسى التى هزّت عروشا ملكية، وأقلقت ثوابت سياسية، وعلّمت أجيالا أدبية وفنية، فإن الدكتور طه حسين -ومن خلفه جيش من اللغويين والكتّاب والمفكرين- ظلّ يطاردها، ويترصد الكاتبين بها، والمطورين لها فى كتاباتهم الأدبية، وظل طه حسين عدّوا مباشرا لكل من يدخلون أى حوار بالعامية فى قصصهم وفى رواياتهم. وفى تقديمه لمجموعة قصصية مختارة لكتّاب ذلك العصر، صدرت عام 1955، اضطر طه حسين إلى أن يستعين بأرسطو الذى قال: «أدب الأديب هو أن يتكلّم لغته التى يعرب بها عن ذات نفسه للناس»، ثم يستطرد: «إنها اللغة العامية التى تستغرق القصة كلها عند بعضهم، وتستغرق الأشخاص عند بعضهم الآخر، ولم تصل اللغة العامية إلى أن تكون لغة أدبية، وما أراها تبلغ ذلك آخر الدهر، والكلام فى هذا كثير ليس هنا مكان للخوض فيه، ولكنى أنصح هؤلاء القصاص من شبابنا ملحّا عليهم فى النصح، مخلصا لهم فيه أن يطرحوا الكسل ويأخذوا للأدب عدته قبل أن يحاولوا الإنتاج فيه». هذا ما كتبه طه حسين فى مقدمته، وقرر بقلب واثق، وعقيدة ثابتة أن العامية لن تكون لغة أدبية على الإطلاق، وبالطبع نصح الشباب، وهو مخلص فى ذلك النصح فعلًا، أن ينفضوا الكسل، ليكتبوا لغة جيدة، ويبحثوا فى مداركها، وهو طبعا يقصد اللغة الفصحى، بعيدا عن تلك العامية البغيضة. وفى 19 يوليو 1958 كتب الأديب الشاب ألفريد فرج قصة «العدوان» فى صحيفة «المساء»، وجاءت القصة مفعمة بلغة عامية وشعبية لا تروق إلى العقلية التى تعمل على التشكيك فى قدرة العامية لتكون لغة أدبية راقية. وقبل ذلك صدرت مجموعة القصص الثانية «جمهورية فرحات» للقاص يوسف إدريس، وذلك فى يناير 1956، وفى هذه المقدمة التى كتبها طه حسين، أنه بذل مجهودا كبيرا فى نصح يوسف إدريس لكى يعتنى باللغة، فيرجو من يوسف إدريس: «أن يرفق باللغة العربية، ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص، كما يبسط سلطانها على نفسه، فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدث بعضهم إلى بعض فى واقع الأمر حين يلتقون ويديرون بينهم ألوان الحوار.. وما أكثر ما يخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن ينطقوا الناس فى الكتب بما تجرى به ألسنتهم فى أحاديث الشوارع والأندية، فأخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع من الحياة درجات دون أن يقصر فى أدائه وتصويره..». هذا ما أورده طه حسين فى تعليقه على مجموعة كتّاب القصة فى المختارات، ثم أوضح فأبان، فكشف عن وجهة نظره بشكل أكثر حدة فى مقدمته ليوسف إدريس، ووضع حدا فاصلا بين حديث الشوارع والأندية فى الواقع، والحديث الأدبى المدرج فى القصص والروايات. وجدير بالذكر أن معركة الفصحى والعامية كانت على أشدها، وتجاوزت الأسوار المصرية، ليناقشها كتّاب ومفكرون ومبدعون غير مصريين، وعلى رأسهم الأديب والمفكر اللبنانى حسين مروّة، فى كتابه «قضايا أدبية»، وأوسع من كون أن القضية لغوية فقط، ولكنه أدخلها فى سياقات اجتماعية وفكرية، كما يليق بمناقشة قضية خطيرة مثل هذه. وقبل ذلك بعام أو عامين، كتب الكاتب الشاب ألفريد فرج فى مجلة «روز اليوسف» بتاريخ 12 يوليو 1954 مقالا تحت عنوان «اللغة العامية وطه حسين»، واختار روايته «شجرة البؤس» لكى يدلل على أن طه حسين، وبالطبع أثنى على الصور الشعبية التى جاء بها طه حسين فى الرواية، ولكنه أخذ عليه، أن الحوار الذى يدور بين شخصيات الرواية، لا تحتمله هذه الشخصيات، فعندما ترفض واحدة من الريف تزويج ابنتها لشخص لا ترضى عنه، فلا تضع تعبيراتها فى مجازات وأساليب جامدة، ومفردات عقيمة، وبين هذه المفردات وطريقة التعبير عنها خصومة قائمة، وطه حسين يصرّ على التعبير عن تلك الصور والمواقف الشعبية، بأعتى مفردات اللغة، لغة معجمية قديمة، وغير حية على الإطلاق، ولا تتناسب مع العصر الذى تعيشه، «وطه حسين هنا لا يفعل إلا أن يحاول حشر الجسد الحى، الطيّع فى حيويته فى قوالب حديدية ذات أشكال هندسية مقررة فى كتب فقه اللغة.. وهى محاولة مضحكة ومتعسفة». ويستطرد فرج فى تقريع طه حسين ويذكّر قرّاء المجلة بأن «دكتور طه حسين قد قال من قبل، بأنه لن يقرأ قصة حوارها بالعامية»، وهنا يتجاوز ألفريد فرج طه حسين، ليسرد بعض المآخذ على رواية «خان الخليلى» لنجيب محفوظ أيضا، حيث إنه وجد أن هناك تناقضا نشأ بين الشخصيات الواقعية والشعبية والحية فى الرواية، وبين اللغة المستخدمة، والمدرجة لتصوير المشاعر العميقة للشخصيات، «فالشخصية الواقعية ذات الانفعال الواقعى حين تلم بها حادثة واقعية، لا بد أن تنطق بلغتها الواقعية، ومن الضرورى للفنان أن يوفق بين المحتوى والأسلوب.. بين الموضوع سواء كان ريفيا أو حضريا أو تاريخيا، والأدوات التى يستخدمها لنقل هذا الموضوع فى صورته الفنية المتكاملة». وفى هذا السياق كتب عبد العظيم أنيس منتقدا نجيب محفوظ فى روايته «القاهرة الجديدة»، ولكنه انتقده فى نبرة هجومية، وقال بأنه كاتب البورجوازية الصغيرة، حيث إن لغته الحوارية فى الرواية غير قادرة على نقل المحتوى الذى تشعر به الشخصيات، ولذلك فهى لغة ملفقة وغير دقيقة. وتمرّ السنوات والعقود، وتظلّ القضية تفرض نفسها بشكل أو بآخر، والعامية تتقدم وتحرز إنجازات أكثر نجاحا من كثير ممن كتبوا بالفصحى، وأصبح لها كتب قصة وشعر ورواية ومسرح، ورغم ذلك فهناك من لا يزالون يطاردونها بضراوة، ويمنعون دخولها فى مجمع اللغة العربية، رغم أننا نحتاج إلى مناقشتها بشكل مستفيض، وأنا أهيب بوزارة الثقافة الموقرة، وضع مهمة عقد مؤتمر موسع، وعلى مستوى دولى، لمناقشة «أثر وتطور اللهجات العامية فى العالم العربى»، إنه مؤتمر ملح وضرورى وسوف يحسم قضايا مؤجلة وحاسمة.