فى بدايات تكوين الدولة عندما كانت حقوق الإنسان تحبو فى مراحل عمرها الأولى. تداخلت المساحات وتقاطعت الدوائر بين الشرطة والقضاء. حدث هذا لغياب الفصل بين السلطات، وعدم نضوج فكرة القانون. لهذا نقرأ فى كتب التاريخ عن الشرطى الذى يقتص للمظلوم، والمحتسب الذى يضبط التاجر الفاسد ويحاكمه ويُنزل به العقوبة على قارعة الطريق، ونسمع فى حكايات كثيرة عن خليفة يعتلى منصة القضاء، مخالفًا بقواعد عصرنا مبدأ الجمع بين وظيفتين فى سلطتين مختلفتين. فنراه وهو يعس ليلًا متسللًا فى الطرقات ليضبط، ويعاقب بنفسه المخالفين للقوانين التى كان أغلبها يُستمد من الدين. بطريقة يعاقبه عليها قانون العقوبات فى العصر الحديث لتجاوزه صلاحيات وظيفتيه! باختصار كان الشرطى والقاضى كلاهما فى الدولة القديمة يجمع بين السلطتين القضائية والتنفيذية. بل وينفذ العقوبة بيده! بتطور البشرية تحددت الفوارق بين السلطات، وانفصل القانون عن الدين ليتمكن من التعامل بحياد ضرورى مع كل المواطنين الذين لا يفترض انتماؤهم لديانة واحدة. هذا المبدأ يتلخص فى جملة: أن القانون أصبح يقف على مسافة واحدة من الجميع. يمر الزمن وتدخل الكهرباء إلى الريف لتطرد عنه الأشباح والخزعبلات. ليسبح فى النور، وفى بحار التكنولوجيا المعرفية. ليتواصل مع الأفكار الحضرية، ويتمدن ويتبنى قيم الحداثة، ويقترب من المدينة، ويخلع عمامة الفصل فى النزاعات بالأحكام العرفية والدينية، ويرتدى ثوب الحكم بالقانون فى مجتمع تدير مصالحه مؤسسات منفصلة، ويرتضى فكرة المواطنة والتساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات. بمرور الزمن أيضًا تحدث مفارقة هائلة فى بعض المجتمعات التى تشوهت وانهارت ملامحها الحضارية تحت مطارق غياب العدالة الاجتماعية لعقود طوال، ليهجم الفكر الريفى على مدنها ويقطع عنها النور، ويطلق سراح أبو رجل مسلوخة، وأمنا الغولة فى طرقاتها الموحشة. ليرضخها لقبول فكرة الحكم بأعراف القبيلة والعشيرة. يخرج أبو رجل مسلوخة من الحواديت المرعبة مدعيا أنه سيحمى الفضيلة برعاية أصحاب اللحى الكثة الكثيفة، الذين يقتنعون أنهم أصحاب التوكيل الإلهى، والحق الحصرى فى تنفيذ ما يرون أنه شرع الله، وبداية نقول لهم: استبدال الأحكام الدينية بالقوانين الوضعية لن يصلح إلا فى حالة واحدة. هى العودة الكاملة إلى عصور ما قبل الحداثة! أكذوبة إحياء القوانين التراثية فى زماننا، مهما كانت تقدمية ورائعة فى سياق عصرها، لم تعد تنطلى على أحد. نظرة واحدة إلى ما يفعله المتأسلمون تخبركم أنهم يعرفون هذا ويجاهدون لامتطاء ناقة الزمن! هناك خطة كاملة لاستنساخ عصر الدولة الإسلامية القديمة، لكن بعد إعادة زرعها فى رحم عصر التكنولوجيا والمعلوماتية بطريقة انتهازية! لا مانع عندهم من استخدام السواك بدلًا من فرشاة الأسنان. لكنهم يستخدمون الشطافة بدلًا من الاستنجاء بالزلطة! المشكلة أننا لسنا مجبرين مثلهم على المزاوجة بين النقائض. إجبارنا على التلفيق وإيهامنا بضرورة القبول به لدخول الجنة نصب صريح على العقل والعلم. هناك طريقتان للعودة لا ثالث لهما. الأولى أن ينعزل أصحاب نظرية استنساخ الماضى ويبتنون لأنفسهم مجتمعهم الخاص فى الصحراء. بشرط أن لا يستخدموا المنجزات الحضارية الآنية فى بنائه، وفى حياتهم بداخله. الثانى أن يجتهدوا لاختراع آلة زمن ليعودوا بها إلى عصرهم المنشود. ملحوظة: أراهن أن شهوانيتهم ستمنعهم من استيرادها إن توصل الصينيون لاختراعها بعد سنوات! من الغريب أن هؤلاء القوم لم يدركوا للآن أن سبب فشلهم الذريع فى إدارة كل ملفات الدولة الحديثة، وأبرزها ملف الاقتصاد، يعود إلى أنهم مغتربون عن ثقافة العصر. محاولة استنساخ عصر قديم وترقيعه لكى يعيشون بداخله فى زمن تالٍ تشبه محاولة زرع قوانص الدجاج لمرضى الفشل الكلوى! أو تركيب فص مخ بتلو داخل جهاز كمبيوتر معطل بدلا من الميكروبروسيسور! ألم يتعظوا من تكرار الفشل المزرى لتجارب إعادة إحياء الدولة الدينية على مر العقود؟ لماذا لا يسترعى انتباههم أن الغرب الصليبى الكاره للإسلام ومدبر المؤامرات ضدهم، كما يزعمون، لم يحاول مطلقًا تجربة إعادة إحياء الدولة المسيحية القديمة؟ لماذا لم يقم الغرب بهذا رغم امتلاكه من وسائل القوة والمعرفة ما يتيح له عودة سهلة آمنة؟ السبب المؤكد أنه لم يحقق تقدمه المذهل إلا بعد أن تخلص من ميراث دولته الدينية القديمة التى تريدون أنتم عودتنا إليها! لم يمر يوم إلا وسمعنا فيه منكم عن دعوة ماضوية مزرية. لن يكون آخرها إعادة استخراجكم لأبو رجل مسلوخة من كتب التراث، ليصبح سيادة اللواء أبو رجل مسلوخة قائد قوات حماية الفضيلة! لماذا يهتم أصحاب الفضيلة غير الأفاضل بتحريم جلوس المحبين على شاطئ النيل، بينما يستحلون لأنفسهم التمتع بالصغيرات دون سن الزواج؟ ألم يرفضوا من أجل ذلك النص على تحريم العبودية فى دستورهم المعادى لحضارة العصر؟ ألم يفتخر البرهامى بعداوته لحرية العقيدة والفكر والإبداع والإعلام وتقييدها بطريقة غير مسبوقة فى أى دستور مصرى من قبل؟! إنهم يرقّعون أفكارًا قديمة فى ثوب لا ينتمى إلى زمانها. ينتقونها من حقبة قريبة من قيم الجاهلية البالية، بينما كان بإمكانهم استعارة بعض أفكار عصر إسلامى آخر ناهض كالعصر العباسى. اشتهر بأنه عصر تنوير وفن ومعرفة وحوار بين الأفكار. أترون كيف يختارون نماذج عودتهم فى الزمان؟ كل إناء ينضح بما فيه. غاية ما نريد منهم الآن أن تنضح أوانيهم بعيدا عن رؤوسنا. نحلم بمؤسسات عصرية تحمى الفرد ولا تتغول على حقوقه. فإذا بهم يستخرجون لنا أبو رجل مسلوخة من الكوابيس! ليجوب الطرقات ويطبق العقوبات. فيضرب هذا، ويقتل ذاك، ويتحرش بهذه، ويدعو المسيحيين أمام كنائسهم لتغيير دينهم بنص دستورى شائن لا يحمى حرية الاعتقاد!