مسألة مصافحة الرجل للمرأة من القضايا المهمة جدا فى الفقه الإسلامى، حيث شغلت الفقهاء والعامة لأكثر من ألف سنة، وقد أفتى أغلب أو معظم المشتغلين بعلوم الدين بتحريم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية. وأبلغ ما قرأته، تعبيرًا عن تحريم المصافحة جملة للإمام النووى (ت 676 ه) من أئمة الشافعية، فى كتابه «الأذكار»، قال: «كل مَن حَرُم النظر إليه حَرُم مسّه»، وهى جملة شديدة البلاغة والوضوح، لكن هل قياسه هذا يمكن العمل به على مصافحة المرأة؟ هل المصافحة يمكن أن تعد مسًّا؟ الذى يعود بالتاريخ إلى سنوات النبوة، يكتشف نقطة على قدر كبير من الأهمية، وهى أن المصافحة لم تكن من العادات المشهورة بين سكان الجزيرة العربية، وقيل إن تحيتهم بعضهم بعضا كانت فى معظمها شفوية، مثل: «حيَّاك الله» أو «حيَّاك..» ثم يذكر اسم الصنم. وإذا كان صباحًا قالوا: «أنعم صباحًا» و«عِمْ صباحًا»، أما إذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: «أَنْعِموا صباحًا»، و«عِمُوا صباحًا»، وإذا كان الوقت مساءً، قال: «أَنْعِم مساءًً» و«عِمْ مساء» و«أَنْعِموا مساءً» إذا كانوا جماعة، و«قد عرفوا المصافحة وكانت باليد اليمنى (انظر: المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام). وقد يتصافحون باليدين. وقد يتعانقون، إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق. وقد أشير فى الحديث إلى المصافحة باليدين عند اللقاء». وذكر ابن حجر فى كتابه «فتح البارى» فى رواية لأبى ذر عن الحموى والمستملى وللباقين «باليدين»، وفى نسخة «باليمين» وهو غلط، و«صافح حماد بن زيد بن المبارك بيديه»، وذكر البخارى فى ترجمة أبيه فى «التاريخ الكبير»، «أنه يلقَّب بأبى الحسن، وأنه رأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه»، وقال فى ترجمة عبد الله بن سلمة المرادى: حدثنى أصحابنا يحيى وغيره عن أبى إسماعيل بن إبراهيم قال «رأيت حماد بن زيد وجاءه بن المبارك بمكة فصافحه بكلتا يديه». وقد قيل إن المصافحة غير عربية، وعرفها العرب من العجم (الفرس). جاء فى مسند الرويانى (ت 307 ه) أبى العلاء بن الشخير، عن البراء ( ح 419): «لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحنى، فقلت: يا رسول الله، كنت أحسب أن هذا من زى العجم، فقال نحن أحق بالمصافحة منهم، ما من مسلمَين التقيا فتصافحا إلا تساقطت ذنوبهما بينهما»، وفى سنن أبى داوود (باب المصافحة)، قيل إن عرب الجزيرة عرفوا عادة المصافحة من أهل اليمن: «حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا حميد، عن أنس رضى الله عنه قال: لما جاء أهلُ اليمن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة)». وما يرجِّح ما سبق وذكرناه بأن المصافحة لم تكن من عادات سكان الجزيرة العربية، ما رواه الترمذى فى سننه (باب المصافحة) عن سويد، قال: «أخبرنا عبد الله، قال أخبرنا حنظلة بن عبيد الله، عن أنس بن مالك، قال: قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقَى أخاه أو صديقه أينحنى له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبّله؟، قال: لا، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم». وذكر الترمذى كذلك من نفس الطريق، ما يؤكد أنها كانت حديثة العهد بعرب الجزيرة: «سويد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا همام، عن قتادة، قال: قلت لأنس بن مالك: هل كانت المصافحة فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: نعم». مصافحة النساء إذا كانت المصافحة بشكل عام لم تكن من عادات عرب الجاهلية فى الجزيرة العربية، وأنهم عرفوها من العجم (الفرس) أو أهل اليمن حسب المروىّ والمنسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذا عن مصافحة النساء؟ جاء فى صحيح البخارى (باب «إذا أسلمت المشركة»): قال إبراهيم بن المنذر: حدثنى ابن وهب، حدثنى يونس، قال ابن شهاب: أخبرنى عروة بن الزبير، أن عائشة رضى الله عنها، زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبى صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى {يا أيها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين} (الممتحنة: 12) إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن «انطلقن فقد بايعتكن»، لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله، يقول لهن إذا أخذ عليهن «قد بايعتكن» كلامًا. وذكر مسلم فى باب «مبايعة النساء»: حدثنى أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرنى يونس بن يزيد، قال: قال ابن شهاب: أخبرنى عروة بن الزبير، أن عائشة، زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله عز وجل {يا أيها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين} (الممتحنة: 12)، إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلقن، فقد بايعتكن» ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام، قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قد بايعتكن» كلاما.. وذكر أيضا فى نفس الباب: «حدثنى هارون بن سعيد الأيلى، وأبو الطاهر، قال أبو الطاهر: أخبرنا، وقال هارون: حدثنا ابن وهب، حدثنى مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء، قالت: ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، إلا أن يأخذ عليها، فإذا أخذ عليها، فأعطته، قال: «اذهبى، فقد بايعتك». وجاء فى الترمذى (باب «بيعة النساء»)، و«الموطأ» بلغته (باب «ما يُكره من مصافحة النساء»): «أخبرنا مالك أخبرنا محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة تبايعه، فقلنا: يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل، أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك فى معروف، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: فيما استطعتن وأطقتن، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نبايعك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إنى لا أصافح النساء، إنما قولى لمئة امرأة كقولى لامرأة واحدة أو مثل قولى لامرأة واحدة. قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر. وروى سفيان الثورى، ومالك بن أنس، وغير واحد هذا الحديث، عن محمد بن المنكدر نحوه. وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث، وأميمة امرأة أخرى لها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «طبقات» ابن سعد قبل أن يجمع البخارى ومسلم والترمذى رواياتهما المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حكى ابن سعد (ت 230 ه) كيفية مبايعة النساء للرسول الكريم، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس الأودى عن حصين بن عبد الرحمن عن عامر الشعبى قال: بايع النبى صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب. أخبرنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أن النبى صلى الله عليه وسلم بايع النساء من وراء الثوب. أخبرنا وهب بن جرير بن حازم، حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبى أن النبى صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء وضع على يده بردًا قطريا فبايعهن. قال والأكثر على أنه قال: إنى لا أصافح النساء، أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهرى عن عروة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء فى البيعة. أخبرنا معن بن عيسى. أخبرنا مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة نبايعه فقلنا: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك فى معروف. فقال رسول الله: فيما استطعتن وأطقتن. قالت فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هلمّ نبايعك يا رسول الله. فقال رسول الله: إنى لا أصافح النساء إنما قولى لمئة امرأة كقولى لامرأة واحدة». أخبرنا وكيع بن الجراح والفضل بن دكين ومحمد بن عبد الله الأسدى قالوا: حدّثنا سفيان الثورى عن محمد بن المنكدر قال: أخبرتنى أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة نبايعه فاشترط علينا ما فى القرآن أن لا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان، ثم قال: فيما استطعتن وأطقتن، فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. فقلنا: ألا تصافحنا يا رسول الله؟ قال: إنى لا أصافح النساء إنما قولى لامرأة كقولى لمئة امرأة. لا أصافح النساء أخبرنا الفضل بن دكين. أخبرنا إسماعيل بن نشيط العامرى قال: سمعت شهر بن حوشب قال: قالت أسماء: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنبايعه فى نسوة فعرض علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخرجت ابنة عم لى يدها لتصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها سوار من ذهب وخواتيم من ذهب. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وقال: إنى لا أصافح النساء». أخبرنا الفضل بن دكين. حدثنا قيس بن جابر عن شيخ من أحمس عن طارق التيمى قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد فى الشمس وعليه ثوب أصفر قد قنَّع به رأسه. فلما قام انتهى إلى بعض الحجر فإذا ست نسوة فسلم عليهن وبايعهن وعلى يده ثوب أصفر. أخبرنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسى ويحيى بن حماد قالا: حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب قال: حدثنى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار فى بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب. فجاء حتى قام على الباب فسلم علينا فقال: السلام عليكن. فرددنا عليه، فقال: أنا رسول الله إليكن. فقلنا: مرحبا برسول الله ورسول رسول الله. فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. فقلنا: نعم. قالت: فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد». أخبرنا محمد بن عمر. حدثنى أسامة بن زيد عن داوود بن الحصين عن أبى سفيان مولى ابن أبى أحمد قال: سمعت أم عامر الأشهلية تقول: جئت أنا وليلى بنت الخطيم وحواء بنت يزيد بن السكن بن كرز بن زعوراء فدخلنا عليه ونحن متلففات بمروطنا بين المغرب والعشاء. فسلمت ونسبنى فانتسبت ونسب صاحبتىَّ فانتسبتا. فرحب بنا ثم قال: ما حاجتكن؟ فقلنا: يا رسول الله جئنا نبايعك على الإسلام فإنا قد صدّقنا بك وشهدنا أن ما جئت به حق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذى هداكن للإسلام. ثم قال: قد بايعتكن. قالت أم عامر: فدنوت منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لا أصافح النساء. قولى لألف امرأة كقولى لامرأة واحدة. وكانت أم عامر تقول: إنا أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. على أى حال ما نُسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه قال لا أصافح النساء، فحديثه هذا يجىء على سبيل الخصوصية، كما أنه جاء على سبيل المنع، أو الامتناع، فقد امتنع ولم يحرم مصافحة النساء، وهو ما يعنى عدم حرمة المصافحة لأجنبى.