سبق أن خططت لكى أفتح هذا الملف من مدخل سماوى، بمعنى أن أبدأ من الله عز وجل، هل الله يكره الموسيقى؟ وبعد لحظات من التفكير اتضح لى أن هذه الصياغة سوف تصرف البعض إلى مناقشة قضية فى غاية الصعوبة، وهى الكراهية، فهل الله يحب ويكره؟ ولأهمية القضية عدت إلى القرآن الكريم لكى أتسلح بآيات تعيننا، والرد على من يدخلنا إلى هذه الموضوعات الهامشية، وخلال البحث فى القرآن تبين لى أن الله عز وجل نسب لنفسه الكراهية والمقت، فى قوله: «كره الله انبعاثهم فثبطهم» «التوبة: 46»، وقوله: «كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها» «الإسراء: 38»، وفى قوله: «لمقت الله أكبر من مقتكم» «غافر: 10»، وأهم ما خرجنا به من عملية البحث أن الله عز وجل لم يشر فى كتابه العزيز إلى أنه كره الموسيقى أو الغناء، وبالتالى لم يحرمها علينا، والملفت أنه سبحانه وتعالى حدثنا عن الأصوات بدرجاتها المختلفة، الصوت الخاشع فى قوله بشكل عام: «وخشعت الأصوات للرحمن» «طه: 108»، والصوت المرتفع فى قوله للمؤمنين: «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى» «الحجرات: 2»، والصوت المنخفض فى قوله: «إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله» «الحجرات: 3»، كما أن الله عز وجل لم يغفل الأصوات الحسنة من الأصوات القبيحة، إذ إنه ضرب لنا مثالا بالصوت القبيح بقوله تعالى: «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» «لقمان: 19»، كما نبهنا إلى درجة الصوت التى قد تجر بعض المؤمنين إلى عمل المعصية، وذلك بقوله للشيطان: «واستفزز من استطعت منهم بصوتك» «الإسراء: 64». وإذا كان الله عز وجل لم يكره الموسيقى ولا الغناء، وإذا كان سبحانه وتعالى لم يحرمهما علينا، فلماذا إذن ادعى البعض أن الرسول عليه الصلاة والسلام يكرهما؟ ولماذا يقال إنه حرمهما؟ وهل يجوز للنبى (أى نبى) أن يحرم ما لم يحرمه الله عز وجل؟ وهل كل الغناء حلال؟ ومتى يكون مكروها؟ الذين حرموا الموسيقى والغناء أصَّلوا لرأيهم الفقهى بداية من القرآن الكريم، إذ إنهم استندوا إلى قوله تعالى: «ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله» «لقمان: 6»، ففسروا لهو الحديث بالموسيقى والغناء وبكل ما يبعدك عن ذكر الله، وقد قال بهذا الرأى عبد الله بن مسعود، ومجاهد، وابن عباس، وقد فسر آخرون لهو الحديث بالشرك، ومنهم الضحاك، وابن زيد، وقد رفض الطبرى فى تفسيره الرأيين وخرج بتفسير أقرب إلى نص الآية وهو: «كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله»، ودعم رأيه هذا بقوله: «إن الله عز وجل ذكر لهو الحديث بشكل عام ولم يخصص بعضا دون بعض». كما استشهد نفس الفريق من القرآن كذلك بقوله للشيطان: «واستفزز بصوتك» «الإسراء: 64»، حيث قاموا بتأويل درجة صوت الشيطان التى يستفزز بها المؤمنين بالمزمار والدف والطبل، وقد عبر عن هذا التأويل مجاهد، ورأى آخرون صوت الاستفزاز بكل دعوة للمعصية، وقال به ابن عباس. ما نسب إلى الرسول وقد نسب إلى الرسول عديد من الأحاديث التى تحل وتحرم الموسيقى والغناء، بعضها مرفوع وبعضها مقطوع، نشير إلى بعضها للتوضيح لذكرها بالتفصيل فى رسالة ابن حزم، التى ننشر فقرات منها فى السطور القادمة، قيامه بتفنيد الأحاديث ونقدها: روى البخارى فى صحيحه، قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابى، حدثنى عبد الرحمن بن غنم الأشعرى، قال: حدثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعرى، والله ما كذبنى، سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، وهو صريح فى ذم مستحلى المعازف، حيث قرنهم مع مستحلى الزنى والخمر والحرير. ففى مسند الإمام أحمد، ومسند عبد الله بن الزبير الحميدى وجامع الترمذى من حديث أبى أمامة، والسياق للترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير فى تجارة فيهن وثمنهن حرام). ثبت فى الصحيحين عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: (دخل علىَّ النبى صلى الله عليه وسلم وعندى جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضى الله عنه، فانتهرنى، وقال: مزمار الشيطان عند النبى صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا)، وفى روايةٍ لمسلم فقال رسول الله: (يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا)). وفى روايةٍ له أخرى، فقال: (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد)، وفى بعض رواياته أيضا: (جاريتان تلعبان بدف). روى سفيان الثورى عن أبى إسحاق السبيعى، عن عامر بن سعد البجلى، أنه رأى أبا مسعود البدرى وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وهم فى عرس وعندهم غناء، فقلت لهم: (هذا وأنتم أصحاب رسول الله، فقالوا: إنه رخص لنا فى الغناء فى العرس، والبكاء على الميت من غير نوح)، فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقا، وإنما يدل على جوازه فى العرس، لإعلان النكاح. أحكام الغناء اختلف الفقهاء فى حكم الغناء والاستماع له، وقد لخص الجزيرى مواقفهم فى مبحث حكم الغناء فى كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة»، وذلك حسب صياغته: الحنفية: قالوا: الغناء إما أن يكون من امرأة أو رجل، فإن كان من امرأة وكان بصوت غير مرتفع بحيث لا يسمعه الناس فلا مانع منه، أما إذا كان الغناء بصوت مرتفع يسمعه الأجانب فهو حرام، وخصوصا إذا كان مشتملا على كلام مهيج للشهوة، ومثير للفتنة كتحسين الخمور وأوصاف النساء أو دعوة إلى الحب والغرام إلى غير ذلك. أما الرجل فإن كان غناؤه لدفع الوحشة عن نفسه، أو كان لحماس الجند أو الحث على العمل والجهاد فهو جائز، أما إذا كان الغناء مشتملا على ذكر الحب والغرام، ويخشى أن تفتتن به امرأة أجنبية تسمع فيكون فى هذه الحالة حراما، كما هو حاصل فى الإذاعة والسينمات ودور الملاهى والتمثيل. وكذلك غناؤه فى حادث سرور مباح إذا كان بغير آلة ولم تكن فيه عبارات مهيجة ولم تحصل منه فتنة، وكان الاجتماع غير محذور لا تختلط فيه النساء مع الرجال، وكان الغناء على غير آلة لهو، ولم يكن سببا لمحرم، أما إذا لم يستوف هذه الشروط فغناؤه حرام، كما هو الحال فى الأغانى التى يذيعها المطربون والمغنون. المذهب الظاهرى ابن حزم الأندلسى صاحب المذهب الظاهرى، استنكر تحريم الموسيقى والغناء، وأفتى بإباحته، ولم يكتف بهذا فقط، بل قام بجمع الآثار المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام، فى الإباحة والتحريم وانتقدها، فى رسالة بعنوان: «رسالة فى الغناء الملهى أمباح هو أم محظور»، ننشر تجريحه معظم رواة الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، وانتقاده متن بعض الأحاديث: 1- حديث عائشة رضى الله عنها، ففيه سعيد بن أبى رزين عن أخيه، وكلاهما لا يدرى أحد من هما. 2- حديث على رضى الله عنه فجميع من فيه إلى يحيى ابن سعيد لا يدرى من هم، ويحيى بن سعيد لم يروِ عن محمد ابن الحنفية كلمة ولا أدركه. 3- حديث ابن مسعود رضى الله عنه ففيه شيخ لم يُسم ولا يعرفه أحد. 4- حديث معاوية فإن فيه كيسان، ولا يدرى من هو، ومحمد بن مهاجر وهو ضعيف؛ وفيه النهى عن الشعر وهم يبيحونه. 5 و6 و7- أحاديث عبد الملك بن حبيب فكلها هالكة. 8- حديث أبى أمامة ففيه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، والقاسم وهو مثله. 9- وأما حديث البخارى فلم يورده البخارى مسندا وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم إلى أبى عامر أو إلى أبى مالك ولا يدرى أبو عامر هذا. 10- وأما أحاديث ابن شعبان فهالكة. 11- حديث أنس فبلية لأنه عن مجهولين، ولم يروه أحد قط عن مالك من ثقات أصحابه، والثانى عن مكحول عن عائشة ولم يلقها قط ولا أدركها، وفيه أيضا من لا يعرف وهو هاشم بن ناصح وعمر بن موسى، وهو أيضا منقطع، والثالث عن أبى عبد الله الدورى، ولا يدرى من هو. 12- حديث ابن أبى شيبة ففيه معاوية بن صالح وهو ضعيف، ومالك ابن أبى مريم ولا يدرى من هو. وأما النهى عن صوتين فلا يدرى من رواه. فسقط كل ما فى هذا الباب جملة. وأما تفسير قول الله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث} بأنه الغناء فليس عن رسول الله، ولا ثبت عن أحد من أصحابه، وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة. وخرج مسلم بن الحجاج، قال ثنى هارون بن سعيد الأيلى، ثنا عبد الله بن وهب عمرو وهو ابن الحارث، أن ابن شهاب حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان فى أيام منى وتضربان ورسول الله مسجى بثوبه، فنهرهما أبو بكر فكشف رسول الله عنه، فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. وبه إلى عمرو بن الحارث، أن محمد بن عبد الرحمن حدثه عن عروة عن عائشة قال: دخل رسول الله وعنده جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرنى وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله! فأقبل عليه فقال: دعهما فإن قيل إن أبا أسامة روى هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه، فقال فيه: وليستا بمغنيتين، قيل قد قالت عائشة: تغنيان، فأثبتت الغناء لهما فقولها وليستا بمغنيتين: أى ليستا بمحسنتين، وقد سمع رسول الله قول أبى بكر: مزمار الشيطان، فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما. وهذا هو الحجة التى لا يسع أحد خلافها ولا يزال التسليم لها. وروى أبو داود السجستانى، ثنا أحمد بن عبيد العدانى، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، ثنا سليمان بن موسى، عن نافع قال: سمع ابن عمر مزمارا فوضع إصبعيه فى أذنيه ونأى عن الطريق، وقال يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال: لا؛ فرفع إصبعيه وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا. فلو كان حراما ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ولكنه عليه السلام، كره لنفسه كل شىء ليس من التقرب إلى الله، كما كره الأكل متكئا والتنشف بعد الغسل فى ثوب يعد لذلك، والستر الموشى على سدة عائشة، وعلى باب فاطمة رضوان الله عليهما، وكما كره أشد الكراهية عليه السلام أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه السلام منكرا للمنكر وآمرا بالمعروف، فلو كان ذلك حراما لما اقتصر عليه السلام أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وبنهى عنه. فلم يفعل عليه السلام شيئا من ذلك، بل أقره وتنزه عنه، فصح أنه مباح وأن تركه أفضل، كسائر فضول الدنيا المباحة، ولا فرق. وروى مسلم بن الحجاج، قال ثنا زهير بن حرب، ثنا جرير ابن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاء حبش يزفون فى المسجد فى يوم عيد، فدعانى رسول الله فوضعت رأسى على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التى انصرفت عن النظر به إليهم. وروى سفيان الثورى وشعبة كلاهما عن أبى إسحاق السبيعى، عن عامر بن سعد البجلى، أن أبا مسعود البدرى وقرظة بن كعب وثابت بن زيد كانوا فى العريش وعندهم غناء، فقلت: هذا وأنتم أصحاب رسول الله؟! فقالوا: إنه رخص لنا فى الغناء فى العرس، والبكاء على الميت فى غير نوح، إلا أن شعبة قال: ثابت بن وديعة مكان ثابت بن زيد ولم يذكر أبا مسعود. وروى هشام بن زيد، ثنا حسان عن محمد بن سيرين قال: عن رجل قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا. فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية فقال: خذى فأخذت حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، فبايعه ثم جاء الرجل إلى ابن عمر، فقال يا أبا عبد الرحمن إنى غنيت بتسعمئة درهم، فأتى ابن عمر مع الرجل إلى المشترى، فقال له إنه غبن فى تسعمئة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيها إياه. فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضى الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجد فلم ينهَ عنه، وقد سفر فى بيع مغنية كما ترى، ولو كان حراما ما استجاز ذلك أصلا.