كانت الشهور الستة التى سبقت ثورة يوليو 1952، شهورًا عصيبة بالفعل، حريق القاهرة الكارثى الذى هبّ وشبّ وانتشر فى 26 يناير، والقبض على عدد هائل من القادة السياسيين، مثل فتحى رضوان وأحمد حسين، وغيرهما، حلّ البرلمان وإسقاط حكومة حزب الوفد بعد أن تفسَّخت سياسته، مؤسسة «أخبار اليوم» تقود حملة ضارية ضد النحاس باشا، وزوجته زينب هانم الوكيل، وكل قيادات حزب الوفد، لحساب جلالة الملك، وتصدر المؤسسة كتابًا عنوانه «هكذا تحكم مصر»، من تأليف علِى أمين، يحوّل دولة الرئيس مصطفى النحاس إلى مسخرة. وفى مجال الحريات، يكتب عباس محمود العقاد مقالًا فى جريدة «الأساس»، مهاجمًا لكتاب «أقباط ومسلمون»، لمؤلفه جاك تاجر، ويرد جاك فى جريدة «الزمان» ردًّا لا يقتنع به العقاد، وتُحال أوراق الكتاب إلى فضيلة المفتى، الأستاذ محمد حسنين مخلوف، مفتى الديار المصرية، ليكتب تقريرًا ينتهى بوصف الكتاب بأنه كتاب مخالف، ويؤجّج الفتنة الطائفية، ولذلك لا بد من مصادرته، وتأتى فى نهاية تقريره جملة تقول «الكتاب فتنة وإثارة حرب بين العنصرَين المتآخَين فى مصر»، ولم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد، بل يتم اغتيال جاك تاجر بتدبير حادثة سير عبثية، فيلقى حتفه تحت عجلات الترام، بعد أن دفعه أحد أعضاء الحرس الحديدى لهذا المصير. أحداث وأحداث وأحداث، وحكومات تسقط، وحكومات تؤلَّف، وصلت إلى أربع حكومات، كانت آخرها تلك الحكومة التى راح يؤلفها نجيب الهلالى باشا، عشية قيام الثورة، ولكنه استقال بعد أربع وعشرين ساعة، وكل ذلك والصحافة والإعلام كله والقادة والساسة مشغولون بالانتخابات القادمة، والتى لم تحدث إلا فى عام 1957، وكانت أول انتخابات برلمانية تحدث بعد الثورة. وفى ظل كل هذا وذاك، يرسل أحد القراء خطابًا فى 2 يونيو 1952 إلى مجلة «روزاليوسف»، محتجًّا على ما جاء فى مقال للزعيمة سيزا هانم نبراوى، والتى كانت قد كتبت مقالًا، سنعود إليه، لتطالب بالحقوق السياسية للمرأة فى التمثيل البرلمانى، وجاء ذلك ردًّا على المرشد العام حسن الهضيبى، الذى أنكر هذه الحقوق، وقال «إننا كجماعة مسلمة، لا نقبل أن تدخل المرأة البرلمان، إلا إذا كانت حافظة للقرآن، وحاملة ومقتنعة بتعاليمه، ولا نقبل أن تدخل المرأة البرلمان دون ارتداء الحجاب»، وهنا ثارت سيزا وأخريات، منهن السيدة درية لطفى. يقول الطالب الأزهرى الذى أرسل الرسالة: «قرأت كلمة للسيدة سيزا نبراوى نشرتها مجلتكم الغرّاء، فلمست فيها العناد، كى تثبت للمسؤولين أن المرأة قادرة على تحمُّل مشاق الحياة، وإنى لأعجب من عجبها إذ تقول: (عجيب أن يرتفع رأى بعض رجال الدين معارضين دخول المرأة البرلمان فى المعركة الانتخابية القادمة، وكان أولى بهم أن يظهروا هذا الحماس فى تطهير البلد من الكباريهات والبارات والرقص.. إلخ)»، ويستطرد «لقد نَسَت السيدة الفاضلة أن المرأة هى التى خلقت كل هذه المفاسد بتحللها من الأخلاق التى يأمرها بها دينها، كما فاتها أن أكبر الأحزاب النسائية المصرية ليس لها أى عمل سوى التزيُّن فى الزينة والتبرّج». ويستكمل القارئ الأزهرى هجومه على سيزا نبراوى، وعلى الأحزاب -الجمعيات- النسائية، ويعيد إنتاج حديث المرشد العام للإخوان المسلمين، وليس مستبعدًا أن يكون هو نفسه من الجماعة، أو من المقربين، ويعمل لتعميق خطاب الإخوان، وتشويه خطاب التحرر عند سيزا وغيرها من القيادات الأخرى، مثله مثل اللجان الإلكترونية الآن. فعلى مدار الأيام والأسابيع التى أعقبت حوار المرشد، ومقالات بعض الكتّاب والسيدات المعنية بهذا الشأن، كانت رسائل القرّاء لا تتوقف عن الهجوم، فقط لتسفيه خطاب التحرر، فعندما كتبت درية لطفى مقالًا فى «روزاليوسف» عنوانه «شعب قاصر»، وقدَّمته بالهجوم على الإدارة السياسية، قائلة: «تقدَّمت المرأة لترشيح نفسها فى الانتخابات، فكانت مفاجأة للهيئات الرسمية عندنا، ثم رفضت هذه الهيئات قبول ترشيحها، فكانت مفاجأة للعالم بأسره»، وأقامت السيدة درية مقالها كله على هذا الرفض المتخلّف، وبعدها اشتعلت الخطابات الهجومية على درية لطفى، ومن أفراد مختلفين ومختلفات، فهذه واحدة توقّع بجامعية تكتب تحت عنوان «لا نريد برلمانات»، وتلك واحدة أخرى توقّع باسم «عاملة كادحة بإحدى شركات الغزل بالإسكندرية»، وهكذا. ولا بد أن أشير إلى واقعة حدثت فى تلك الأيام وكتب عنها أحمد بهاء الدين مقالًا تحت عنوان «نساء محترمات»، ويبدأ مقاله ب: «علماء الأزهر يجتمعون، ويقدمون إلى رئيس الوزراء مذكرة يطالبون فيها بالجلاء.. لا بجلاء الإنجليز عن القنال.. بل بجلاء الفتاة المصرية عن الجامعة»! وزعمت هذه المذكرة أن دخول المرأة إلى الجامعة، أفقدها كثيرًا من العزة والاحترام، هذا ما كان يفكّر فيه بعض علماء الأزهر، وهو ما جعل المناخ محتدمًا إلى حد كبير، فكتبت أقلام عديدة فى مواجهة هذه الظلامية التى تواجه البلاد فى مثل هذه المنحنيات الحادة والعنيفة على مرّ التاريخ. وتعتبر السيدة سيزا نبراوى منذ أن عادت من باريس مع السيدة هانم شعراوى، وهى رأس حربة لمواجهة مثل هذه الأشكال المتردية من الأحداث والفاعليات المتطرفة تجاه المرأة، وشاركت عام 1923 فى تكوين الاتحاد النسائى المصرى، وشاركت نساء فضليات، مثل شريفة هانم رياض ونادية هانم راشد وإستر هانم فهمى ويصا ورسمينا هانم خياط ووحيدة هانم خلوصى وإحسان هانم أحمد وجميلة هانم عطية وعزيزة هانم فوزى، وغيرهن فى تكوين هذا الاتحاد الذى قاد مجموعة من الإجراءات التى وضعت المرأة المصرية فى صدارة الأحداث السياسية منذ ذلك الوقت، حتى الآن.