لم يكن الصراع بين سعد باشا زغلول وعدلى باشا يكن هو أول صراع بين رجلين على قمة هرم السياسة فى مصر، ولن يكون آخرها، وسيبقى التاريخ ما بقى الدهر شاهدا على العديد والمزيد من الصراعات والحروب التى تتمحور حول تنازع السلطة واقتسام الريادة. دبت شرارة الخلاف بين زعيم حزب الوفد" سعد زغلول" وزعيم حزب الأحرار الدستوريين" عدلي يكن" في أكثر من موقف علي مدي نصف قرن، ظهرت خلالها ملامح التناحر السياسي بينهم في خطاباتهم ومقالاتهم السياسية، مما أثر علي أحزابهم محدثا إنقسامات حادة ما بين مؤيد ومعارض وأدي إلي إنقسام ليس فقط المثقفين بل الأمة بأكملها إلي سعديين وعدليين. بدءت ملامح الخلاف تتبلور بين سعد وعدلي بعد إجراء انتخابات الجمعية التشريعية 1914 وتعيين وكيلين لرئيس المجلس أحدهما من المنتخبين هو"سعد زغلول باشا" والثاني من المعينين وهو"عدلي يكن باشا"، وقد بدء الخلاف بين الأثنين عندما طرح أحد الصحافيين القائمين على تغطية أنشطة البرلمان الجديد سؤالا "عمن تحق له الرئاسة في حال تغيب رئيس البرلمان" فأصر سعد زغلول على حقه في ذلك كونه منتخبا، والحال كذلك مع عدلي يكن الذي أصر على أن العبرة بالقدرة علي إدارة الجلسات وليس الانتخاب. وتفاقمت الخلافات مرة آخري في 26 فبراير 1921 عندما ابلغت الحكومة البريطانية السلطان فؤاد برغبتها فى تبادل الآراء حول اقتراحات لجنة ملنر مع وفد يعينه السلطان بهدف التوصل إلى ايجاد بديل للحماية يضمن مصالح انجلترا ويمكنها من تقديم الضمانات الكافية للدول الأجنبية، وتحقيق الامانى المشروعة لمصر وللشعب المصرى، وفى اواسط مارس عرضت الوزارة على عدلى فقبلها على ان يكون هدفه الرئيسى استئناف المفاوضات. وأطلق على وزارة عدلى اسم "وزارة الثقة" وهى تسمية اطلقها سعد زغلول فى عام 1920 على فكرة تأليف وزارة لا يشارك فيها الوفد، ولكنها تتمتع بثقته وثقة الامة، يرأسها "عدلى يكن"، وتتولى وضع الدستور والتفاوض مع الانجليز، وحاول سعد ان يتفاهم مع عدلى حول هذا الموضوع وأبدى استعداده للعودة بصحبه الوفد إلى مصر ليكون إلى جوار"وزارة الثقة". وذكر عدلى يكن فى خطاب تأليفه الوزارة انه سيدعو الوفد إلى الاشتراك فى المباحثات برئاسة سعد زغلول، وان الامة سيكون لها على لسان ممثليها فى الجمعية الوطنية-التى يتم انتخابها- القول الفصل فى هذا الاتفاق، وان الوزارة ستأخذ على عاتقها إعداد الدستور، وعرض عدلى على سعد الاشتراك فى المفاوضات، فرد سعد –من باريس- بما يفيد اعتزامه الحضور إلى مصر، وقد وصل إلى الإسكندرية فى 4 ابريل حيث استقبلته الجماهير بالثغر والعاصمة استقبال الأبطال. وسرعان ما وقع الصدام بين سعد زغلول وعدلى يكن لاختلافهما حول الشروط التى تقدم بها سعد زغلول للاشتراك مع الوزارة فى المفاوضات وهى التى اعنها في (21 ابريل 1921). وتتضمن ما يلي: 1. أن تكون غاية المفاوضات الغاء الحماية. 2.الحصول على الاعتراف بالاستقلال الدولي التام. 3. إلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف قبل البدء فى المفاوضات. 4. أن تكون للوفد الأغلبية بين المفاوضين، وتعقد له رئاسة وفد المفاوضات الذى يجب ان يشكل بمرسوم سلطانى يحدد مهام الوفد تحديدا واضحا. وقد رفض عدلي باشا الشرط الأخير- رئاسة سعد للوفد- بحجة أن التقاليد السياسية لاتسمح بأن يشترك رئيس الحكومة في هيئة المفاوضة دون أن يكون رئيسها، كما رفض مبدأ تشكيل أغلبية المفاوضين من الوفد، وابدى عدلى اعتزامه المضى فى التفاوض حتى ولو لم يتم الاتفاق مع الوفد، واتجه الى لندن عام 1921 واستطاع بواقعيته ومرونته أن يحصل من الإنجليز على ما لم يحصل عليه وفد سعد زغلول عام 1919، ففي 28 فبراير عام 1922 أعلنت انجلترا انتهاء الحماية والاعتراف بمصر دولة مستقلة ونودي بفؤاد ملكا كما تألفت لجنة لوضع دستور دائم للبلاد. فعقب رفض عدلي لشروط سعد بدأ الخلاف بينهم ينعكس علي صفوف حزب الوفد الذي أيد أغلبية أعضائه ما قرره عدلي، مما دفع سعد إلي إدخال الأمة طرفا في المعادلة، وألقى سعد خطابه الشهير فى شبرا يوم 28 أبريل 1921، أعلن فيه الخلاف بينهما ووصف عدلى وإخوانه بأنهم "برادع الإنجليز"، وحدث الصدام الذى نتج عنه انقسام الأمة إلى سعديين وعدليين وتراشق الزعماء الاتهامات، ثم جاءت مسألة استشارة الأمة فى مشروع "ملنر" لتضيف عاملاً جديدًا إلى عوامل الفرقة بين أعضاء الوفد، وكان سعد اقترح عدم رفض المشروع قبل استشارة الأمة، رغم تحذير لطفى السيد، بأن ذلك قد يفتح بابًا للدسائس والتشويش ولانقسام الأمة. واستمر صراع العدليين مع السعديين أو صراع الاعتماد على النفعية والواقعية للوصول للأهداف- الذى انتهجه عدلي يكن- مقابل الاعتماد على نهج الشعبوية- الذي انتهجه سعد زغلول- حتى انصرف كل من عدلي وسعد بعد عام 1924 بعيدا عن السياسة، فقد اتجه الأول للإقامة في لندن والتجول في أوروبا بينما اتجه الثاني لقريته "مسجد وصيف" حتى أدركه الموت فيها وقال كلمته الشهيرة "مفيش فايدة" ويقول آخرون إن آخر كلمة قالها هي "خلاص أنا انتهيت".