عرف العالم فى العصر الحديث ثلاثة أنماط رئيسية من النظم السياسية الأحادية التى يجمعها الاعتماد على دور محورى لرأس السلطة التنفيذية، لكنها تختلف فى كثير من تفاصيلها، وهى التسلطية والشمولية والشعبوية. وتؤدى الصعوبات التى تواجه التحول الديمقراطى فى كثير من بلاد العالم إلى انتقال بعضها من أحد هذه الأنماط إلى غيره عندما يحدث تغيير فيها، فعلى سبيل المثال تحوَّلت بعض النظم الشمولية التى انهارت فى شرق ووسط أوروبا فى نهاية الثمانينيات إلى نظم تسلطية بدرجة أو بأخرى، لكن فى صورة تعددية. وشهدت مصر خلال العقود الستة الأخيرة انتقالا -فى هذا الإطار الأحادى- من نظام كان مزيجا من الشمولية والشعبوية (بين منتصف الخمسينيات ومنتصف السبعينيات) إلى نظام تسلطى فى صورة تعددية «ديكورية»، ثم إلى نظام يتشكل الآن ويغلب عليه النمط الشعبوى نتيجة تعثر التحول الديمقراطى بعد ثورة 25 يناير. فقد أنتجت التفاعلات المعقدة التى أعقبت تلك الثورة، وما اقترن بها من صدمة حكم «الإخوان»، والتطورات التى ترتبت على موجة 30 يونيو وما يرتبط بها من انقسام عميق وعنف خطير، حالة مجتمعية تبحث عن الخلاص فى سلطة يمكن الوثوق فيها والثقة فى قدرتها على إنقاذ البلاد. وهذه هى فى الأغلب الأعم الحالة النمطية التى يتبلور فى ظلها نظام سياسى شعبوى «Populist» يختلف عن النظام الشمولى «Totalitarian» فى أنه لا يعتمد على حزب حاكم يحتكر المجال العام، وعلى النظام التسلطى «Authoritarian» فى أنه يضيق بالمجال السياسى ويتجاهله أكثر مما ينزع إلى التسلط المباشر عليه. فالنظام الشعبوى، فى أبسط تعريف له، يختزل الشعب فى كتلة واحدة صمَّاء، ويدمج أفراده فى إرادة علوية تصبح هى التعبير الوحيد عنه وتقيم علاقة مباشرة معه دون حاجة إلى مؤسسات وسيطة، ويخلو النظام الشعبوى، على هذا النحو، من السياسيين، ولا يجد حاجة إلى دور لهم فى التواصل مع المجتمع، مثلما لا يرى ضرورة لمؤسسات وسيطة حزبية أو مجتمعية يعتقد أنها تعطَّله أو تعوقه. ولذلك يضيق النظام الشعبوى بالأحزاب حتى إذا أيدته، ولا يحفل بالسياسة وكل ما يتعلق بها ويراها مضيعة للوقت والجهد، ويؤمن بأن الإنجاز لا يتطلب سوى حُسن الإدارة، كما أنه لا يبالى بالتجارب التى تدل على أن هذه الإدارة تصل إلى طريق مسدود حين تفتقد الرؤية السياسية التى تحدد الاتجاه وتبلور الأولويات وتوضع على أساسها البرامج والخطط التنموية. وعندما تتوفر مقومات النظام الشعبوى بهذا المعنى فى لحظة اضطراب واسع لا يقتصر على المجتمع الذى يبحث عن خلاصه فى مثل هذا النظام، بل يعمّ المنطقة المحيطة به، يمكن أن تأخذ الشعبوية شكلا «بونابرتيا» أو «شبه بونابرتى»، فلكل من أنماط النظام الأحادى الثلاثة أشكال عدة. و«البونابرتية» هى أحد الأشكال التى قد يأخذها النظام الشعبوى فى لحظات تاريخية معينة يتسم فيها بسمتين: الأولى هى محاولة الوقوف على مسافة متساوية من كل مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية، فالسلطة «البونابرتية» لا تدعم حزبا أو تعتمد عليه، ولا تنحاز نظريا إلى طبقة أو فئة اجتماعية ضد غيرها، بل هى «فوق الجميع.. ومع الجميع». أما السمة الثانية فهى الانخراط فى صراعات خارجية، لأن الصيغة «البونابرتية» ترتبط عادة بمراحل اضطراب إقليمى شديد، حيث كان نموذجها الأساسى فى فرنسا خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر (1852 - 1871 تحديدا) تحت حكم لويس بونابرت. وإذا كان كارل ماركس هو الذى وضع الأساس النظرى للصيغة «البونابرتية»، فقد أثرى باحثون ومفكرون عدة هذه الصيغة وطوَّروها لكى تبقى إحدى الأدوات اللازمة لفهم الطريقة التى يعمل بها النظام الشعبوى فى لحظات معينة، وتفسير توجهاته. ولولا ذلك لصارت «البونابرتية» صيغة تاريخية مرتبطة بظرف معين فى القرن التاسع عشر، مثلها مثل الصيغة «القيصرية» (نسبة إلى الإمبراطور الرومانى الأشهر يوليوس قيصر) التى اقترنت بمرحلة مبكرة فى التاريخ السياسى. ومثلما ينشأ النظام الشعبوى، سواء فى شكله «البونابرتى» أو غيره نتيجة تعثر «دراماتيكى» لعملية تحول ديمقراطى فى مهدها، فهو يؤجل هذا التحول إلى أجل غير معلوم، وقد يشمل هذا الإرجاء التفاعلات التى تتبلور فى ظلها معارضة واضحة تشغل مساحة ما فى الحيز السياسى، لأن هذا الحيز نفسه يضمحل بخلاف ما يحدث فى النظامين التسلطى والشمولى، وربما يعنى ذلك إرجاء المقدمات اللازمة لمحاولة تحول ديمقراطى جديد، وليس تأجيل هذا التحول فقط. ولذلك تجد الأحزاب والقوى السياسية صعوبة فى التعامل مع النظام الشعبوى الذى تبدو فى ظله مرتبكة بل حائرة على النحو الذى نراه فى مصر الآن، ولعل أكثر ما يربكها هو تجاهل النظام لها رغم أن أغلبيتها الساحقة تؤيده، كما أن بعضها يفرط فى هذا التأييد. لقد كان موقف نظام حسنى مبارك تجاه الأحزاب منسجما مع طابعه التسلطى ذى القشرة التعددية، وكانت الأحزاب تعرف أنها جزء من هذه القشرة، وما يقترن بذلك من قواعد للعبة بدت فى سياقها منطقية أو طبيعية بالنسبة إليها. ولذلك تبحث الأحزاب الآن عن المنطق وراء الموقف السلبى للنظام الحالى تجاهها رغم أنها لا تعارضه، ولا تخوض معارك ضده، بل يؤيده معظمها، فهى لم تدرك بعد طبيعة النظام الشعبوى، الذى لا يجد حاجة لها حتى إذا كانت مؤيدة له، لأنه يريد علاقة مباشرة مع الشعب. فهذا نظام لا يعبأ، بحكم طابعه والسياق الذى يتشكل فيه، بالأحزاب وغيرها من المؤسسات الوسيطة، وهو يضيق بالتعددية من حيث المبدأ دون أن يتخذ موقفا ضدها، حتى إذا لم تُسبب له إزعاجا، ويفضل أن يكون «الكل فى واحد» وأن «يتوحد» الجميع أو «يندمجوا» أو «يتحالفوا»، حيث يتعامل مع هذه المعانى المتعددة كما لو أنها مترادفات. وتزداد هذه النزعة إلى «التوحيد» كلما احتدمت المعارك التى يخوضها أى نظام شعبوى فى الداخل أو الخارج، غير أن هذه النزعة تصطدم ببعض أهم ما يترتب على التغيير الذى يزداد فى العالم الآن، وهو عدم قابلية الناس للتنميط والقولبة فى عصر ثورة الاتصالات والمعلومات مهما بلغ تعلق قطاع واسع منهم بنظام يراهنون عليه. ولذلك تواجه النظم الشعبوية فى هذا العصر اختبارا غير مسبوق لطبيعة العلاقة المباشرة التى تقيمها مع «الشعب»، ومدى قدرتها على التقاط الإشارات القادمة من أجيال جديدة لا تستسيغ قطاعات متزايدة، منها أن تعيش داخل جلباب أى نظام سياسى أو تصطف فى طابوره طوال الوقت. ولعل إحدى سمات النظام الشعبوى أن العلاقة المباشرة القوية التى يصر عليها مع «الشعب» قد تتيح له التقاط مثل هذه الإشارات، لكن المهم هو أن يحدث ذلك فى الوقت المناسب، وأن يُحسن التعامل معها. ففى هذه الحالة، يمكن أن تكون الشعبوية مرحلة فى الطريق المتعثر إلى الديمقراطية.