دائمًا ما تثار قضية الحوار بين المشرق العربى، والمغرب العربى، على اعتبار أن هناك ملامح وصفات وقسمات مختلفة بين المجتمعات المغربية والمجتمعات المشرقية، وبالتالى هذه الاختلافات تنسحب على الثقافتين وكل الفنون السينمائية والمسرحية والغنائية وهكذا، ورغم أن ابن خلدون عاش فى مصر بضع سنوات، واشتبك مع أهلها، ومرّ بدمشق وترك آثارا فكرية وسياسية فى البلدين، فإن المغاربة يعتبرونه «أيقونة» مغاربية خالصة، وجدير بالذكر أن ابن خلدون كان ملهما لكتاب ومبدعين مشارقة، وكذلك كتَّاب مغاربة، وكان الكاتب المصرى أحمد رشدى صالح هو أول مَن استلهم سيرة وحياة عبد الرحمن بن خلدون، وكتب رواية بديعة عنوانها «رجل فى القاهرة»، وصدرت عام 1957، وكتب كذلك المسرحى السورى سعد الله ونوس مسرحيته «منمنمات تاريخية» عن هذا العلّامة، لكن الأخير كان قاسيا بشكل حاد على ابن خلدون، وذلك أغضب بعض المغاربة من ونوّس، ورأوا أنه تجنّى على أحد الثوابت والأيقونات المغاربية، فكتب الكاتب والأديب المغربى سالم بن حميش روايته الجميلة «العلّامة»، ليردّ -كما أظن- بعضا مما نال الرجل من نزق بعض المشارقة، وكنت قد قدّمت فى أحد المؤتمرات الثقافية بحثا عن «استلهام الأدباء لسيرة ابن خلدون»، وقارنت فى البحث بين هذه الآثار الأدبية البارزة، وذلك كان مثار تحفظ الدكتور المغاربى سالم بن حميش، الذى أصبح وزيرا لثقافة دولة المغرب فى ما بعد. ولا يتوقف الحوار المبطن بالأعمال الإبداعية، التى ذكرنا بعض نماذج منها، لكنه يمتد للحوارات المباشرة، وهناك تبادلات ثقافية وفكرية وأدبية وفنية عديدة، ولا أنسى هنا بعض الأدباء الذين كتبوا عن القاهرة كمكان فى إبداعاتهم، وهذا ما فعله محمد برادة فى روايته «مثل صيف لم يتكرر»، حيث استلهم تجربة حياته عندما كان يدرس فى الجامعة أيام مصر الناصرية، وكان مفتونا بها إلى حدود قصوى، وكذلك كتب سالم بن حميش روايته «مجنون الحكم»، مستلهما حياة وفترة حكم أحد حكام القاهرة، وتحدّث عن مصر حديثا إيجابيا وتاريخيا. وكذلك كتب الأديب جميل عطية إبراهيم رواية «أصيلا»، وهى إحدى المحافظات المغربية، وهكذا، وقد تم التبادل الثقافى عبر الكتابات المتنوعة التى كتبها كل طرف عن الآخر فى الفكر والثقافة والإبداع والفن، وحاول الطرفان إجراء هذا التبادل والحوار المشارقى والمغاربى، على أمل الوصول إلى المشتركات الكامنة بين المجتمعين. ولذلك خير ما فعلت مجلة «اليوم السابع» العربية الباريسية، عندما اقترحت على المفكرَيْن حسن حنفى ومحمد عابد الجابرى إجراء حوارات أو مناظرات بينهما على صفحات المجلة، وبدأت تلك الحوارات المهمة فى 6 مارس عام 1989 لتقليب تربة التواشج والاتصال العروبى الإسلامى بين المجتمعين، هذا الحوار الذى امتد طويلا أثمر عن نتائج فى غاية الأهمية، وأتمنى أن تكون هذه الحوارات قد جمعت فى كتاب ونشرت. وقد تناولت الحلقات قضايا فى غاية الأهمية، ففى الحلقة الأولى ركز حنفى والجابرى على أهداف الحوار ومقاصده، وفى الحلقة الثانية تحاور المفكران حول الأصولية «أو السلفية» وعلاقتها بالعصر، وفى الحلقة الثالثة تناولت العلمانية والإسلام وقضية فصل الدين عن الدولة، وفى الحلقة الرابعة التى نشرت فى 17 أبريل 1989 تناولت فكرة الوحدة العربية واحتمالاتها الإقليمية والاندماجية، وهكذا استمرت الحوارات الثرية بين الطرفين لتكشف عما كان كامنا بين مفكرين مرموقين فى المجتمع العربى قاطبة، وأثار كل منهما فى بلاده درجات متفاوتة من الحوار والزوابع الفكرية والثقافية الجديرة بالاهتمام. وآثرت المجلة أن يبدأ المفكر حسن حنفى، تحديد الأرض والمهاد الفكريين، حيث تنبنى على ذلك كل المعطيات التى يترتب عليها الحوار، وذلك مما وجد قبولا لدى المناظر عابد الجابرى، وبالفعل حدّد حنفى بضع نقاط وضرورات ومفاهيم عديدة لإجراء حوار هادئ عقلانى، لإيضاح مجموعة من الأفكار التى كانت غامضة أو كامنة، ولدحض بعض أفكار كانت سائدة، مثل روحانية المشرق، وعلمانية المغرب. وحسن حنفى -لمن لا يعرف- هو المفكر الإسلامى المصرى، وأستاذ الفلسفة الأشهر والأكثر جدلا، الذى يتمتع بخصوصية مشروعه الفكرى الكبير عن كثيرين من أساتذة الفلسفة، وهو مشروعه «التراث والثورة»، الذى أصدر منه عدة مجلدات، وكذلك أصدر مجلدات أخرى تحت عنوان «هموم الفكر والوطن»، وناقش فى كل مشاريعه الفكرية علاقة التراث العربى والإسلامى بالواقع الحالى ومفرداته الكثيرة، وبالطبع كان يناقش الأمور بعقلانية مستريحة وواعية إلى حد كبير بالمجالين، أى إحاطته بالتراث العربى والإسلامى فى الفكر والتاريخ والثقافة وطبعا الفلسفة -مجال تخصصه الأول- وكذلك الجغرافية، ومن هنا كان كتابه «التراث والتجديد» مقدمة طبيعية وجدلية لمشروع الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذى أثار تحفظ البعض، وأجّج عدوانية البعض الآخر، مما أثمر نتائج مخيفة بالنسبة إلى مجتمعنا الملغوم بقنابل تراثية موقوتة، تنفجر فى أى لحظة، وتثير التوتر بين الحين والآخر مثلما يحدث الآن، هذا المجتمع الذى لم يستطع احتمال وجود نصر حامد أبو زيد وأمثاله بين جنباته. ولذلك يعتبر حسن حنفى هو التمهيد الأقصى لاستنبات وجوه متعددة للتفكير والتجديد والجدل، حتى لو اختلفت معه، وضمن أسباب إقدامه على هذا الحوار، هو تقليب الأفكار الكثيرة، التى تسود فى مجتمعاتنا، على اعتبار أن الصورة أو الفكرة هى الأسبق عن الواقع، بل هى المحركة للواقع والقادة والسياسيين لتحقيق الأهداف النبيلة التى تسعى لها المجتمعات، وهو لا يعتبر ذلك نوعا من المثالية، لأن المجتمعات العربية -كما يرى- ما زالت تحركها النصوص، وهى محكومة بالماضى وفكر الماضى ومقدسات الماضى واجتهادات الماضى فى الفقه والتشريع، والأهم هو مناقشة هذه الملغومات الكامنة فى الماضى وتنقيتها من كل سوء. وبالطبع لا مجال هنا لمناقشة مجريات هذه الحوارات، لكننا سنعود، إن شاء الله، لتناول أفكار محمد عابد الجابرى، لما تسمح به تلك السطور القليلة.