نبيل الكت، زميلى فى الزنزانة، كان يحدثنى كيف كان يسرق الرخام من على قبور اليهود. حديث الكت كان مليئًا بالمشاعر والأوصاف العنصرية. فى المعتقلات تعلمت أن لا أناقش الناس فى قناعاتهم، خصوصا حين تكون هذه القناعات دينية، لكن حكايات نبيل ظلت تلح علىّ بين فترة وأخرى، وكنت أتفهمها فى سياق كون الرجل مجرما محترفا ونزيل سجون دائما. نبيل مع توالى السنين اعتاد على تدبير عيشته فى السجون، وصارت عنده أسهل من تدبيرها فى الخارج. قلت له مرة، أنت يا نبيل قطعة من السجن مثل الأسوار والعسكر وأبواب الزنازين وشبابيكها. أتذكر أن هذا الوصف أزعجه جدا. وكنت متعمدا أن أزعجه، فالحكومة حطته معى (بالأحرى حطتنى معه) فى نفس الزنزانة لكى يزعجنى. ويضيّق علىّ المساحات، وينقل أخبارى أولا بأول إلى رئيس مباحث السجن، وأشهد أن نبيل لم يكن يقصر فى مهمته. تذكرت حكايات نبيل وأنا أقرأ ما كتبته السيدة ماجدة شحاتة هارون، على صفحتها على فيسبوك ، عن وقائع زيارتها لقبر أبيها فى البساتين. شحاتة هارون، والد نادية، عاش حياته فى مصر وقاوم كل محاولات التضييق عليه لمغادرتها. فى الخمسينيات والستينيات وفى أثناء ارتفاع الموجة الفاشية إلى شاهقها فى مصر، بدأ التضييق على اليهود لترحيلهم، ونال شحاتة نصيبه من التضييق. كان على من يريد السفر خارج مصر من اليهود، أن يوقع تعهدا بأنه لن يعود. كانت ابنته منى مريضة، إلا أن الرجل رفض السفر لعلاجها فى الخارج، حتى لا يتم حرمانه من العودة، والنتيجة: ماتت منى بين يديه. الصديقة ماجدة اليوم هى رئيسة الطائفة اليهودية فى مصر. تحكى ما حدث معها: ذهبت صباح أمس إلى مقابر اليهود بالبساتين مع زوجى المسيحى وابنتىّ المسلمتين وصديقة مسيحية وصديقة مسلمة صديقتى، وصديقات نادية أختى، أمس كانت سنة قد مرت على فراق نادية لهذه الدنيا، وبعد أن غسلت قبرها وقبر والدى كما هى العادة عندنا، ووضعنا الزلط على القبرين كما هى العادة، وقام كل من الحاضرين بالصلاة التى تعود أن يتلوها على قبر عزيز، ابتعدنا عن القبور متجهين إلى السيارات، وكان بعض سكان المنطقة ينظرون إلينا كأننا من كوكب آخر، قام بعض منهم وكانوا لا يتعدى سنهم الخمسة عشر عاما بالسب: ترب اليهود ولاد الوسخة، وعادوها مرة واتنين وتلات مرات، وأنا متمالكة أعصابى إلى أن رأيتهم يجرون إلى مقبرة نادية وبابا ويتبولوا عليها. حاولت الجرى وراهم، والله لو قدرت أمسكهم ماعرفش كنت عملت فيهم إيه، يمكن كنت قتلتهم. عرفت بعد ذلك إن لما ولادها راحوا يزوروا قبر نادية، كان عليه زجاج مهشم، والزلط كان مرميا على الأرض. مش عارفة الحزن اللى مالى قلبى لفراق أختى وتوأم روحى أكبر، ولّا حزنى على ما حدث أمامى أكبر. تربة شحاتة هارون وتربة نادية شحاتة هارون وترب يهود مصر الذين دفنوا فى هذه المقابر منذ سنة 400 هجريا إلى يومنا هذا تدنس عمدا بهذه الطريقة وأمام من تبقى منهم!! شكرًا يا مصر!! عمار يا مصر!!! ، -تكتب ماجدة- ثم تنهى كتابتها بصرخة: دى آخرتها .