لم يكن الشيخ الشاب على عبد الرازق -من علماء الأزهر- القاضى الشرعى بمدينة المنصورة فى عام 1924، يعلم أنه سيكون مثار جدل وشد وجذب وقضايا ومحاكم ومظاهرات، إلى هذه الدرجة القصوى، ولم يكن يدرى أن كتابه «الإسلام وأصول الحكم.. بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام»، سيتحول إلى أسطورة سياسية وفكرية إلى هذا المدى الذى حدث فى مصر والعالم الإسلامى كله، وظل تأثيره يعمل حتى الآن. ولكن الشيخ كان يعلم أنه سوف يدخل عش الدبابير الأزهرى والسياسى، لذلك كتب سطرين فى مطلع الكتاب قال فيهما: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه، له القوة والعزة، وما سواه ضعيف ذليل ، ومهر هذين السطرين بتوقيعه ثم المنصورة فى يوم الأربعاء 7 رمضان سنة 1343ه، أول أبريل سنة 1925 . ثم صدر الكتاب، ولكن وقت الصدور كان خطيرًا، إذ كان الملك فؤاد، الذى كان سلطانًا من قبل، يريد ويسعى ليكون خليفة للمسلمين جميعًا، إذ قامت الثورة التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وطردت الخليفة خارج البلاد، وألغت ما يسمى بالخليفة، وبذلك أصبح العالم الإسلامى خاليًا من خليفة منذ ألف عام، وهنا خلت الساحة أمام الملك فؤاد ليسعى ويحظى بهذا المنصب الرفيع، وقد كان الإنجليز يتوقون لتنصيب خادمهم الأمين خليفة للمسلمين، حتى يمرروا كل ما يصبون إليه من مطامع وسيادة فى جميع المستعمرات التى يرتفع فيها علم بريطانيا العظمى. ولأن الحصول على الخلافة لن يتأتى بحدّ السيف كما كان يحدث فى غابر الأزمان، فلا بد من تتويج هذه الخلافة بأشكال من التأييد الفكرى والدينى، فكان الأزهر خادمًا أمينًا للملك فى ذلك الوقت، ودعا الشيخ الأحمدى الظاهرى -شيخ الأزهر آنذاك- إلى مؤتمر لبحث شؤون الخلافة فى الإسلام، وهذا سبب ظاهرى، ولكن السبب المستتر هو منح الملك فؤاد لقب الخلافة، ومبايعته بواسطة علماء المسلمين فى العالم الإسلامى كله، وبالتالى تم توجيه الدعوة إلى علماء المسلمين فى عام 1924 لإنجاز المهمة سريعًا. وفى أثناء ذلك صدر كتاب هذا الشيخ الشاب على عبد الرازق، والذى وضع حدا فكريا لهذه المهزلة، وجاء بما لا بد أن يجىء، وشرع فى هدم هذه المنظومة الفكرية التى يريد الملك وخادموه وحواريوه أن يروجوا لها، ونفى أن يكون كتاب الله -القرآن الكريم- أو السنة المحمدية، قد فصّلا فى أمر هذه الخلافة، وبدأ فى شرح المصطلح، وقدرته على الهيمنة، وتسييد ما لم يمكن تسييده، إلا بالذرائع الدينية، وأسهب فى أن الخليفة يفعل كل ما يشاء تحت سطوة هذا اللقب الذى ينتسب إلى الدين ظلمًا وعدوانًا، وفى حقيقة الأمر، لا ينسب إلى الدين من قريب ولا من بعيد. ويتساءل الشيخ عبد الرازق: فما سند الخلافة؟ هل هو القرآن؟ السنة؟ إجماع المسلمين؟ وينفى عبد الرازق كل ذلك، حتى هذا الإجماع الذى يزعمونه لم يحدث كما يروّج له، وكتب يقول: إن الخلافة فى الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت -إلا فى النادر- قوة مادية مسلحة، وكتب فى هذا السياق، كأنه يوجه سهمًا نافذًا فى صدور الملك والإنجليز وشيوخ الأزهر الذين هرولوا لتزيين المنصب: ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين . قول فصل وحاسم وجوهرى وعالم وجرىء، فى مواجهة خصيان الملك الذين تستروا بتفاسير دينية مغلوطة ومتطرفة، قول قلب الدنيا، وأفسد حلمًا كان يداعب الملك وعرش بريطانيا العظمى، لذلك كان العقاب الذى لاحق الشيخ على عبد الرازق، كبيرًا، وكانت أشكال التكفير تصدر فى وجه الشيخ متواترة ومتوترة، وتم فصل الشيخ من هيئة علماء الأزهر فى مشهد مهيب، وأعتقد أن بقية القصة المدوية مسجلة بتفاصيل مرعبة فى كتابات كثيرة، ويمكن الرجوع إلى كتاب الإسلام وأصول الحكم نفسه، أو كتاب أيام لها تاريخ لأحمد بهاء الدين، أو لكتاب أفكار ضد الرصاص لمحمود عوض، وغير ذلك من كتابات كثيرة. المهم أن كثيرين أجمعوا على أن الشيخ على عبد الرازق قد توقف عن العمل العام، لما سببه له الكتاب من متاعب واستبعاد، ولكن هذا الإجماع يبدو أنه خاطئ، والدليل على ذلك، أن مجلة الجديد الصادرة فى 4 مارس 1928، نشرت فى باب صدى الصحف ، تقريرًا وافيًا عن أن مجلة الرابطة الإسلامية ، والتى يشرف عليها الشيخ على عبد الرازق، أصبحت هدفًا ثمينًا للشيخ السلفى، ومؤسس الفكر التكفيرى الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار . إذن فالشيخ على عبد الرازق، ظل يعمل بعد محنة كتابه الأسطورى، وكذلك ما زال يشكّل خطرًا على خصومه المرتعشين على تفاسيرهم المغلوطة، هذه التفاسير التى لا تخدم إلا الملوك والسلاطين، وتحت عنوان نحن- على عبد الرازق، وصاحب المنار- رشيد رضا ، كتبت الجديد تقول: بين الشيخ رشيد رضا صاحب المنار، وبين المشرف على تحرير مجلة -الرابطة الشرقية- خصومة قديمة العهد معروفة، ولقد كان يحسن بهذه الخصومة أن تبقى بعيدة عن عمل لا شأن له به، وعلى أناس لا ينيهم من أمرها كثير ولا قليل، ولكن الشيخ رشيد يأبى إلا أن تتغلب أعصابه ومشاعره تلك الخصومة وتملأ مشاغله وأوقات حياته ، ويستعرض التقرير الذى بلغ ثلاث صفحات كاملة، اتهامات السيد رشيد رضا بالكفر صاحب المجلة، ووصف كتابها من أمثال أحمد أمين ومحمد حسين هيكل وطه حسين، بالملاحدة، ليصبح الشيخ رشيد، هو الأب الشرعى الأول للتكفيريين الجدد فى مصر والعالم الإسلامى قاطبة.