«أنا أكتب لأننى غاضب منكم جميعًا، غاضب من الجميع»، هكذا تحدَّث أورهان باموك، الروائى التركى الأهم والأشهر فى خطاب «نوبل للآداب» عام 2006 أمام الأكاديمية السويدية، هذا الاقتباس فى رأيى مدخل جيد ومعبِّر عن أورهان، باعتباره مثقفًا وفنانًا وكاتبًا مستقلًّا عن الجميع وضد الجميع السائد الذى يمثّل السلطة، ضد سلطة الدولة، ضد سلطة جمهور القرّاء ودور النشر، ضد الذوق العام، ضد التاريخ القومى الرسمى، ضد الهُوية السلطوية الثابتة، ضد سلطة الدين الرسمى، ضد القوميين، سواء أكانوا علمانيين أو إسلاميين، باختصار -كما أسلفت- ضد كل ما يستشعر بأنه يمارس سلطة عليه. هو روائى بالأساس يؤمن للغاية بالأدب وفن الرواية، له 8 روايات مكتوبة بالتركية حتى الآن، ينحاز فى معظمها إلى ما بعد الحداثة بامتياز، لكنه لا يحكى ذاتيات عن نفسه أو غرائبيات عن بلاده وثقافته بالشكل الضيق المتعسّف والمستفز، لكن تستشعر عندما تقرأ له أنه يرى أن الرواية وعاء للأفكار والتناقضات والألعاب الفنية الكتابية شكلًا ومضمونًا، فى محاولة حثيثة للاقتراب من جوهر ذواتنا، حياتنا تاريخنا، فى محاولة لتفسير الغضب والحب. كذلك يعى دوره كمثقف مستقل ينتج أفكارًا يعبِّر عنها فى مواقفه وتصريحاته ومقالاته وحواراته ورواياته أيضًا بذائقة نقدية راديكالية إلى حدّ كبير، مثلًا فى 2005 تحدَّث عن جريمة الإمبراطورية العثمانية فى أواخر أيامها تجاه الأرمن والأكراد، وهاجت الدولة والمثقفون، سواء أكانوا علمانيين أو إسلاميين، ضده، وطُلب إلى المحاكمة بتهمة إهانة الهُوية التركية علنًا، ولم يحظَ من بلاده بأى دعم أو تضامن إلا القليل، على عكس التضامن العالمى الكبير أدبيًّا وثقافيًّا. يؤمن باموك أنه يكتب للقرَّاء، كتبه ورواياته ومقالاته، يكتب للآخرين جميعًا وضدهم فى نفس الوقت، يكتب لهم وليس وفق مزاج وذائقة قارئ مواطن تركى مثالى وصالح، يكتب لقارئ يناقشه ويشاكسه ويلعب معه، يؤمن بأن الفن والأدب متعة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. بعد 2005، قلّت مبيعاته قليلًا، لكنه ظل مقروءًا بكثافة فى تركيا، كثيرون ممن عاشوا فى تركيا أو زاروها بعد حصوله على نوبل يقولون إن الأتراك يقرؤون له لكنهم لا يحبّونه هو نفسه. باموك ظلّ يعيش بين الأتراك -باستثناء 3 سنوات فقط- فى مدينته معشوقته التى خلّدها فى رواياته، إسطنبول، فهو كاتب إسطنبول بلا جدال، لكنه كان يسير وسط حراسة فى أوقات كثيرة بعد المحاكمة. كأى فنان يكره باموك السياسة ويخشاها لكنه يضطر إليها، عايش كثيرًا من الانقلابات العسكرية فى بلاده، أشهرها انقلاب 1980 الذى انتقده بشدة بسبب فرضه الرقابة المشددة على الصحافة والمطبوعات، وبسبب الدستور الديكتاتورى السلطوى الذى فرضه الانقلاب. وكأى فنان جيد لا ينتج باموك روايات سياسية مباشرة، فقط إطار عام للأحداث أو أفكار حول السياسة أو عن الأثر الذى يمكن أن تخلّفه الأحداث السياسية، سواء أكانت إخفاقات أو قمعًا، حتى فى رواية ثلج ، أكثر رواياته سياسية، يحاول فيها فهم بشكل عميق الصعود الإسلامى فى تركيا، فى ظل تواطؤ العلمانيين مع الجيش، وكانت فى إطار بوليسى فنتازى متخيل. أعتقد أن أورهان باموك، الذى سيحلّ ضيفًا على القاهرة فى افتتاح مهرجان القاهرة الأدبى الأول يوم السبت القادم فى بيت السحيمى، يُمثّل نموذجًا فريدًا وملهمًا كمثقف مستقل لكل مثقفينا وفنانينا.