الجريمة مزعجة ومستهجنة ومرفوضة، ليست لأنها همجية فقط، لكن لأنها تكرار عنيف غير مبرر لرسوم مسيئة أو غير مسيئة اعتادت مجلة «شارلى» نشرها، وهى بهذا الأسلوب لا تخص دينا بعينه أو عقيدة بعينها، وتبنى موقفها فى جانب منه على المهاجمة المستمرة للمقدس، وتهاجم الجميع، بداية من الشخصيات العامة والسياسية والرؤساء والملوك ورجال الدين والأنبياء، وهذا الموقف مقبول فى عمومه فى فرنسا، وإن كان هذا لا يعنى أن البعض يتأففون هناك من توجهات المجلة، والأمر هنا يرتبط بثقافة مغايرة لثقافة الغالبية العظمى من المسلمين التى لا يضعها القائمون على المجلة فى حسبانهم فى ما يخص الديانات السماوية أو غير السماوية فى كل تنوعات خريطة المعتقد الدينى، وهنا علينا أن لا ننسى أن المجلة غير منشغلة بأن تصب تهكماتها على الأديان فقط، ويشير العارفون للمجلة أن الموضوعات المرتبطة بالأديان فيها نادرة، وأن ما يدفعهم إلى تناولها من زاوية أو أخرى الأحداث والأوضاع ذات العلاقة بالدين. لم يرسم صحفيو شارلى الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم فى مجلتهم من الباب للطاق ، وهم فعلوا هذا كردة فعل يغيب عنها الفهم، لأنهم فى الغالب ظنوا أن الأفعال الوحشية واللا آدمية البشعة من قلة من المرضى المهووسين الذين ينتمون إلى الإسلام تستقى أفعالها من تعاليمه، واللافت للنظر أن القائمين بمجزرة شارلى قاموا بفعلتهم البربرية فى حقيقة الأمر بعد رسم غلاف فى الأربعاء السابق للجريمة يتصدره الإرهابى أبو بكر البغدادى عنوانه حيوا أخاكم البغدادى وتمنوا له دوام الصحة ، والمعنى المقصود من هذه العبارة يتلخص فى التهكم على هذا القاتل السفاك، وإذا كانت المجلة سبق بالفعل أن رسمت الرسول عام 2011 وهو يتعرض للذبح من إرهابى، كما أنها أعادت رسمه مرة أخرى فى صورة غير لائقة منذ عام تقريبا، فإن الفرق بين التوقيتين فى تناول شخصى البغدادى والنبى محمد صلى الله عليه وسلم يكشف أن السبب الحقيقى لجريمة اغتيال صحفيى شارلى يكمن فى الواقع فى التهكم الذى تم فى التوقيت الأقرب الذى طال الإرهابى أبو بكر البغدادى. المسلمون هم أول وأكثر من عانى من الإرهاب بدرجة هائلة، وللتذكرة فمن أسابيع قليلة قتل تنظيم طالبان فى باكستان أكثر من مئة طفل فى إحدى المدارس، وفى صنعاء تزامن مع حادثة شارلى قتل عشرات الشباب الصغار بعربة مفخخة وهم يستعدون للتقديم فى كلية الشرطة، ويوميا يذبح داعش من قاطنى بادية الشام، وأخيرا وليس آخرا أزهقت بوكو حرام 200 روح فى طلعة واحدة وكل من يتعرضون للقتل والذبح بدم بارد ليسوا مسلحين، أى أنهم عزل مسالمون لا حول لهم ولا قوة، بل إن فصائل الإرهابيين يقومون بتصفية بعضهم البعض أحيانا.. هؤلاء قوم لا تتوقف لديهم شهوة قتل البشر وذبحهم بلا رحمة على عكس الغرب الذى تخلص من أشكال سفك الدماء على المشاع بعد مسلسل طويل من الحروب الأهلية والحروب العظمى، حتى إن بعض المؤرخين يصنفون الحربين العالميتين الأولى والثانية بأنهما حربا أوروبا الأهلية، وبعدهما تم الاستقرار النهائى ونبذ الحروب فى ما بين الأوروبيين، واختفاء ظواهر الإرهاب الجماعى لأسباب دينية أو عرقية، وهذا ما حدث فى أمريكا بعد حربها الأهلية الشهيرة بين الجنوب والشمال. هذا الغرب لم يعد يقبل الآن أن يكسر طوقه الأمنى غرباء لا يفهمون ثقافته، أو مواطنون من المهاجرين لا يستطيعون التأقلم مع هذه الثقافة، ومن المؤسف والمخزى أن هذا لا يأتى إلا من المسلمين الذين يحملون ولاءات لجماعات إرهابية منحرفة وضالة أو أفكار مشوشة عن عقيدتهم الدينية، لهذا كانت التظاهرة الكبرى فى باريس التى حضرها كل الزعماء من أوروبا نوعا من الإعلان القوى عن أنها -أى أوروبا- لن تتخلى عن ثقافتها، وعلى الآخرين أن يقبلوا بذلك مهما كانت معتقداتهم وثقافتهم، لهذا لم يكن شعار كلنا شارلى الذى اختاره الفرنسيون والأوروبيون أيضا اختيارا عشوائيا أو عاطفيا أو يرتبط بالجريمة الإرهابية، لأنه كان فى جوهره صيحة مدوية، تعلن قبل إدانة الجريمة أنه لا تخلى عن حرية الرأى وأساليب التعبير عنها مهما كان بها من شطط ما دام أنها تتم فى إطار سلمى. الجريمة الإرهابية الشنعاء فى مقر جريدة شارلى لا تعفى الفرنسيين والأوروبيين من حملات الكراهية التى يتعرض لها مواطنو هذه البلاد من أصول غير أوروبية، والتى يمكن أن تكون سببا فى أفعال تجنح إلى العنف كرد فعل على ما يلاقونه عنتا ونفيا، لكن الأمانة تقتضى الإشارة إلى أن رد الفعل هذا لا يرتبط بالعمليات الإرهابية إلا من المسلمين فقط، بينما يأخذ أشكالا أخرى من أصحاب الأعراق والديانات الأخرى أقصاها الجرائم الجنائية المعتادة. أما فى شأن أحمد كوليبالى، العقل المدبر للجريمة، فمن المعروف أنه كان على علاقة بحياة بومدين بعد أن تركت بيت أهلها، واستمرت هذه العلاقة سنتين قبل الزواج، وعاشا هذه الفترة بحرية مطلقة، كما لو كانا لا دينيين وبلا روادع من أعراف ديانتهما، وكان كوليبالى قد طلب من ساركوزى وظيفة عام 2009 لم يحصل عليها، وأنه بايع الخليفة القرشى أبو بكر البغدادى قبل الجريمة الإرهابية بأسبوعين، وقبل نشر صورة البغدادى فى شارلى بأسبوع.