أقدم الأخوان كواشى على إطلاق الرصاص على صحيفة «شارلى إبدو» من هنا، ليتدفَّق فيضان بشرى فى شوارع باريس من هناك، كأننا أمام حادثة البوعزيزى التى أشعلت الثورة فى تونس، ومن ثَمَّ فى الشرق الأوسط كله سنة 2010. فيضان بشرى وصفه تليفزيون فرانس 24 بأنه لم يحدث فى تاريخ فرنسا إلا سنة 1998 حين احتفل الفرنسيون بفوز منتخب بلادهم لكرة القدم بكأس العالم. لكن يبقى أن هذا هو الجانب المضىء من الصورة. فى الجانب الآخر منها، ثمة مَن يحاول أن يركب المشهد، كأننا فى القاهرة فى أواخر يناير 2011 وما بعدها: ملايين البشر يتدفقون فى ميادين المدن المصرية الكبرى، يواجهون الرصاص بصدورهم العارية، وهم يهتفون للعيش والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية. كان هذا فى الوجه الظاهر من صورة القاهرة. بينما فى وجهها الخفى، يتفاوض اليمين الدينى مع اليمين العسكرتارى على حزب وجمعية أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير مقابل إخلاء الميادين وإعادة التاريخ إلى الوضع كما كنت (وفقًا للمصطلح العسكرى). المشهد فى باريس ليس بعيدًا عن هذا. الملايين، مخصوم منها جبهة لوبان العنصرية، تهتف فى شوارع المدينة وميادينها، فى حالة إصرار على تجاوز كل ما هو هوياتى ودولتى ودينى.. إصرار على تجاوز كل ما يمزّق البشر لصالح ما يجمع بينهم: فضيلة المواطنة. بينما نتنياهو (مثلًا) فى خلفية الصورة يكرّس ليهودية دولة إسرائيل، ولمسؤوليتها المباشرة عن كل يهود العالم، لدرجة دفن شهداء الإرهاب، من يهود فى فرنسا، فى إسرائيل. ما قبل أحداث فرنسا ليس كما بعدها. هذه الحادثة وإن كانت أقل دمارًا من 11 سبتمبر، فإنها ستكون أكثر عمقًا وتأثيرًا فى تاريخ العالم. (ربما) لأنه جاء بعد كنس الإخوان من على وجه مصر. بعد 11 سبتمبر راهن اليمين الغربى على الإخوان كبديل للأنظمة الحاكمة، فى قراءة عنصرية، من وجهة نظرى، لواقع الحال فى الشرق الأوسط. كان لسان حاله: هو عاوز دين.. إديلووو دين.. والدين عند الإخوان.. والإخوان مستعدون للعب الدور. لم يفطن اليمين الغربى حينها إلى أن بوعزيزى لم يصب البنزين على حاله، ويتبعه بعود الثقاب، لأنه أحس أن ثمة نقصًا فى دينه، إنما لأن شرطية ضربته بالكف على وجهه، دون أن يجد مَن يفزع له. (الفعل الذى أقدم بوعزيزى عليه، وهو الانتحار، القائمون على الدين الإسلامى يحرمونه إلى درجة الكفر). اليوم نحن وجهًا لوجه أمام فشل هذا الرهان. ومن ثَمَّ صرنا نسمع الإعلام الغربى يتحدَّث بلا لف أو مواربة عن إعادة هيكلة الثقافة التى تنتج الإرهاب. كان هذا بالضبط واحدًا من مطالب الثورة المصرية المسكوت عنها، أو التى تأتى فى سياق مطلب الحرية. الحرية فى أبسط معانيها، هى الانعتاق من كل مؤسسات الوصاية، وعلى رأسها مؤسسات الوصاية الدينية، وهو ما تجلَّى فى الهتاف الشهير: يسقط.. يسقط حكم المرشد. اليمين الهوياتى اليوم جاب آخر ما عنده. هلاوسه كلها حطّها على الطاولة. فى باريس كما فى القاهرة. ويبدو كمن ينقض من مسام الفعل الثورى. وهى شقوق أنتجتها قلة الخبرة. كما أنتجتها براءة الفعل الثورة وسلميتها ورغبتها الحقيقية فى الانعتاق الإنسانى. لكنه لن يقتنص هدفًا واحدًا من أهدافه إلا فى سياق الثورة. بمعنى أنه قد يحقّق هدفًا، لكنه مضطر إلى أن يستخدم واحدًا من أهداف الثورة كغطاء.