أحد أكبر المشكلات التى تواجه دولة القانون فى مصر هو الانفصال بين الأنساق القانونية والظواهر الاجتماعية والاقتصادية التى ينظمها قانون الدولة، ومن ثم يخضع لمساومات وتواطؤات بين عديد من الأطراف على عمليات تطبيقه على النزاعات القضائية حينا بالالتفاف البيروقراطى حوله. من خلال آليات التفسير والتحوير الإدارى لمقاصده وأهدافه تحقيقا لمصالح بعض الأجهزة الإدارية، وحينا آخر من خلال الخضوع لنفوذ ذوى القوة والمكانة ومصالحهم تفسيرا وتأويلا لقواعده، والأخطر خضوعا لهم، أو من خلال آليات الفساد الإدارى وشبكاته. هذه الظاهرة تستشرى فى الدول الشمولية والتسلطية، حيث يبدو القانون تعبيرا عن مصالح القوى الاجتماعية المسيطرة على السلطة والثروة، وفى عديد من الأحيان تعمل الدولة وسلطاتها لمصالحهم أساسا، وبعدها تأتى مصالح القوى الاجتماعية التى تدعم نخبة الحكم ثم الأغلبيات الشعبية بعد ذلك، ازدادت هذه المشكلة تعقيدا مع التطورات الكبرى فى عالمنا، مع عمليات العولمة وتغيراتها لم تعد القوانين الوطنية فقط هى التى تحكم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية داخل إقليم الدولة، وإنما اهتزت معها مفاهيم السيادة عموما، والأخطر أن سلطان القانون والقضاء الوطنى شملتهما تغيرات جديدة، على رأسها أن العالم المعولم تحكمه شبكات القوانين المعولمة بعضها فى نطاق القانون الدولى العام الذى يحكم العلاقات الدولية بين أطراف المنظومة الدولية وفاعليها من الدول والمنظمات الدولية، مع بداية تغيرات تتسارع حول أدوار بعض الفاعلين ما دون الدول، وأصبح بعضهم يلعب أدوارا مؤثرة فى العلاقات الدولية والإقليمية. من ناحية أخرى، قامت دول المجموعة الأوروبية بعد تطور هام تشكل عبر تاريخها، يتمثل فى منظومة من الحقوق والحريات الأساسية التى يتمتع بها مواطنو هذه الدول داخل دول المجموعة كلها، أيا كانت الدولة التى يعيشون أو يعملون أو ينتقلون إليها، ثمة استثناءات لها علاقة بتطور وضعية المجموعة فى علاقاتها بالدول الأعضاء، وتلعب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان دورا رائدا فى مجال حماية الحقوق والحريات. ثمة تغير فى أوضاع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التى باتت فى إطار التغير العولمى، تتطور فى تنظيمها لعديد من الأنشطة والعلاقات والحقوق والحريات، والتى كانت جزءا من نطاق السيادة التشريعية للدول، ومن ثم أصبحت جزءا لا يتجزأ من النظام القانون الداخلى للدول الأطراف فيها، ويطبقها القضاء الوطنى كجزء لا يتجزأ من قانون الدولة. من ناحية أخرى تخضع عديد من الاتفاقيات والعقود التى تبرمها الشخصيات الاعتبارية -المعنوية- كالشركات والمؤسسات الخاصة، أو المتعددة الجنسيات والدول لمشارطات التحكيم الدولى، وامتدت الظاهرة إلى إخضاع عديد من الأطراف للنزاعات القانونية حول العقود أو الاتفاقات القانونية إلى التحكيم الداخلى أو الدولى. يترتب على هذه التطورات أن سلطة القضاء الوطنى تتراجع لصالح التحكيم. لا شك أن هذه الظواهر تتنامى وتتكثف فى إطار بعض التغيرات التى اعترت عالمنا المعلوم، ومن ثم انعكاسات ذلك على السيادة الوطنية. كيف تعاملنا ونتعامل مع هذه الظواهر القانونية الجديدة فى مجال حقوق الإنسان والمواطنة والمجتمع المدنى، بل فى فلسفة القانون، والسياسة التشريعية فى مصر؟ النظام القانونى والمصرى الكلى وأنساقه الفرعية –فى مجال القانون العام والخاص- تبدو قديمة رغم التعديلات المتتالية على بعض النصوص وفى أمور جزئية، ومن هنا تبدو وكأنها عمليات ترقيع للجسد القانونى الوطنى، وذلك لأنها لم تعد تنطلق من فلسفة قانونية تتفق مع طبيعة التغير فى القوانين المقارنة فى نطاق الدول الأكثر تقدما، لا سيما فى مجال الحريات والحقوق، والتطور فى بنية الرأسمالية العالمية والمعلومة. يبدو أن تراجع نظامنا القانونى عن متابعة الاتجاهات الجديدة فى نظريات القانون والدولة، وفى الفقه والقضاء المقارن، يعود إلى عديد من الأسباب، نذكر منها تمثيلا لا حصرا ما يلى من أسباب: 1- غياب الدرس الأكاديمى فى القانون المقارن، وتطبيقاته والاتجاهات النظرية والتطبيقية فى القضاء المقارن اللاتينى والأنجلو أمريكى، وما يتم تعليمه للدارسين هو بعض الكتابات التى كانت تدرس منذ عديد من العقود فى بعض كليات الحقوق، وفى الدراسات العليا، وأصبحت أقرب إلى الدراسات التقليدية. 2- تراجع البعوث الدراسية والأكاديمية للسفر إلى الجامعات ومراكز البحث القانونى فى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية للحصول على الدرجات العلمية، أو لإعداد دراسات محددة فى فروع القانون المختلفة، أو للمشاركة فى المؤتمرات الدولية، وورش العمل، بالإضافة إلى ضعف مستويات تكوين بعض الباحثين. 3- عدم ترجمة المؤلفات القانونية النظرية المقارنة، أو المبادئ العامة الجديدة فى أحكام المحاكم الدستورية العليا، أو المجلس الدستورى الفرنسى أو المحكمة العليا فى الولاياتالمتحدة، وكذلك محاكم النقض والمحكمة الإدارية العليا فى فرنسا على سبيل المثال، بحيث يستطيع رجال القانون الاطلاع عليها ودراستها. 4- غياب سياسة بحثية فى العلوم القانونية تدور حول الاتجاهات الجديدة فى القانون المقارن، والقضاء المقارن تعتمد على متابعة التطورات الجديدة فى النظريات القانونية فى فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والولاياتالمتحدة... إلخ، وذلك لتنشيط العقل القانونى المصرى عموما والفقهى على وجه الخصوص. 5- ضعف تعليم اللغات الأجنبية –الفرنسية والإنجليزية- فى بعض كليات الحقوق، مما يؤدى إلى إعاقة طلاب الدراسات العليا عن متابعة المؤلفات الفقهية الجديدة فى فروع القانون العام والخاص، أو التطبيقات القضائية الجديدة. 6- غياب تصور لسياسة تشريعية جديدة، سواء لدى السلطة التنفيذية، أو لدى السلطة التشريعية طيلة أكثر من أربعين عاما مضت، وخضعت عملية إنتاج التشريعات لمواقف النخبة السياسية الحاكمة لا سيما عند قمة النظام، وتركز مشروعات القوانين التى تقدمها السلطة التنفيذية إلى البرلمان، فى ظل تراجع دور أعضاء البرلمان فى التقدم بمشروعات للقوانين إلا على نحو محدود جدا. من هنا نستطيع أن نفسر لماذا ظلت القوانين فى مصر تصدر وفق مقتضيات اللحظة، ومن ثم لم تكن هناك رؤية للسياسة التشريعية فى علاقاتها بما يتم فى الاتجاهات المعاصرة على المستوى العالمى والمعولم لا سيما فى مجال الحقوق والحريات العامة والفردية وحقوق المواطنة وأجيالها المتعددة.