الثورة ولادة، والولادة لا بد أن تسبقها فترة حمل، إذ لا توجد ثورة فى التاريخ دون إرهاصات ودوافع مسبقة، وكما لا يوجد دخان بلا نار لا توجد فتنة بلا تفرقة وظلم، ولأن ما فات قد فات، فإن العبرة من التاريخ هى الدروس وليست الوقائع، فالتاريخ ليس تكئة لإثارة النعرات والخلافات والبغضاء، وليس وسيلة لتغذية الانتقام، وليس أيضا مجرد «حواديت» للتسلية أو الشجار، ونحن إذ نعالج موضوع الثورة فى دولة الإسلام، لا نسعى إلى إيقاظ «فتنة نائمة» فى أمة أحوج ما تكون إلى الوحدة، ولا نسعى إلى «حدوتة» للتسلية نغمض بعدها العيون وننام ملء الجفون. قد يتصور البعض أن فتح ملفات التاريخ فى تلك الفترة ربما، يؤدى إلى نوع من المساس بمكانة الصحابة، وحرصا على دينى قبل دنياى، أعدت قراءة كتاب حكم سب الصحابة لابن تيمية وابن حجر الهيثمى، واستعذت بالله أن أكون ممن ضلوا السبيل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فوالله ما أقصد إلا نصرة هذه الأمة، وإعلاء كلمة الحق، لكى نتمكن من قطع دابر الفتنة التى فرقت بين الصحابة الأطهار، ولا تزال ترعى فى زماننا، وإن سكتنا عنها فلن تقوم لنا قائمة، ولهذا سأمضى فى غايتى، وعلى الله قصد السبيل. قلت إن الثورة ولادة، والولادة لا تأتى فجأة، إذ تسبقها علامات ومظاهر كثيرة، مثل تزايد الشكوى، وانتشار السخط والتذمر بين الناس، واختلال العلاقات بين القوى الحاكمة فى المجتمع، وهذا ما سجله التاريخ خلال النصف الثانى من خلافة عثمان -رضى الله عنه- حيث تقاطعت مسارات ومصالح عدد من القوى الرئيسية، فى مقدمتها العسكر، وكبار التجار، والطامحون للسلطة، والمحتجون على الانحياز العائلى، والسياسة المالية. الخطير فى الأمر هو استخدام هذه القوى للعامل الدينى فى الصراع السياسى، فحدث نوع من الشطط وصل فى بعض الروايات إلى التكفير المتبادل ، وهو أمر لن نخوض فيه، لكننا ننبه بشدة إلى خطورة تحويل الصراع على السلطة إلى نوع من الاستحقاق الدينى ، وهو فهم كرسه سيدنا عثمان نفسه عندما طالبه الثائرون بالانخلاع من الحكم، فاعتبر نفسه مفوضا من الله وليس من الأمة، على غير مفهوم سيدنا أبى بكر، الذى بدا جليا فى خطبة بيعته (إن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى)، أما سيدنا عثمان فقال: إن الخلافة ثوب كسانيه الله -سبحانه وتعالى- ولن أخلعه أبدا ، وجادله الثائرون بآيات من القرآن، ولما احتدم الصراع بلا وفاق ولا اتفاق، كانت الغلبة للعنف والسيف، وهو ما لا نرضاه لسيدنا عثمان، ولا نرضاه لنا الآن، ولا لأحفادنا فى قادم الزمان، وأنبه إلى أن مصطلح الثورة ، ورد لأول مرة فى التاريخ الإسلامى، تعبيرا عن هذه الفتنة، وهو تعبير سياسى لا نقصد به معنى إيجابيا ولا سلبيا، لكنه مجرد وصف حالة قال به القدماء، ولا يزال مفهوما حتى الآن، وننبه أيضا إلى أن الثائرين لم يكونوا قطاع طرق ، أو مرتدين، كما يصورهم بعض الكتابات المغرضة، والأعمال الدرامية الكاذبة، لكنهم كانوا فاتحين وفقهاء، خشى سيدنا عثمان أن يقابل ربه وهو يحمل دمهم فى رقبته، فارتضى الموت على رفع السلاح ضدهم، ولو كانوا مرتدين لقاتلهم كما قاتلهم أبو بكر، لكنهم كانوا نخبة جيوشه، وبعضهم فقهاء كعبد الرحمن بن عديس البلوى، الذى تولى القضاء فى مصر زمن عمرو بن العاص، وقيل إن بعض صحابة الرسول انتقدوا عثمان بعنف، منهم طلحة بن عبيد الله الذى قال فيه الطبرى: بعد أن أكرمه عثمان، وخصه بالعطاء طوال خلافته حتى حوصر، كان طلحة أشد الناس عليه ومن أكبر المساعدين على قتله ، أو كما قال عنه طه حسين فى الفتنة الكبرى : كان طلحة إذن يمثل نوعا خاصا من المعارضة، رضى ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة، فلما طمع فى أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك . وللحديث بقية.