كانت تلك كلها مقدمات جعلت من مصر واحدة من أكثر دول العالم تقدمًا فى القرن التاسع عشر. وفى النصف الثانى من نفس القرن، استقرت أحوال مصر السياسية وتحولت إلى دولة جاذبة للبشر من معظم البلاد المجاورة لها، خصوصا بلاد الشام. ومن هؤلاء الذين جذبتهم مصر (جذبته مصر كما يجذب الربيع الفراشات الملونة) واحد لبنانى اسمه نعوم شقير، سيقول فيه فرج ابن سليمان، شاعر قبيلة أرميلات الحدودية وعبدها وأحد ساداتها، الشعر وهو يخط الحدود بين مصر والشام: التمت الباشات بين المحاديد.. وإحنا صبرنا بينهم للمداعاة. نعوم بيك والمدير المسمى.. وفتحات باشا والعساكر بتبراه. واليوم صار حدادنا بطن بارود.. والكل من حده يرجع لممشاه. يا رب تحميهم وتنصر دولهم.. ارتاحت العربان بعد المقاساة. كان نعوم شقير قد وُلد فى لبنان سنة 1864 وتخرج فى الكلية الإنجيلية السورية سنة 1883، وهو ما أهله لأن يلتحق بالمخابرات المصرية بمجرد هبوطه مصر. عمله فى المخابرات جعله على اتصال بسيناء، تلك القطعة الملتهبة من يومها وحتى اليوم، وأيضا المرتبطة بالمخابرات من يومها وحتى اليوم. فى كتابه تاريخ سيناء ، يكتب نعوم شقير: ندبتنى الحربية مرارًا للذهاب إلى سيناء لأغراض مختلفة تتعلق بإدارة البلاد واستتاب الأمن والراحة بين قبائلها. فزرت ديرها (يقصد دير سانت كاترين) ومدنها وقراها وتعرفت على قبائلها واطلعت على أحوال أهلها. ولما كانت حادثة الحدود سنة 1906 عُينت سكرتيرًا للجنة المصرية التى نُدبت لتعيين حدود سيناءالشرقية مع اللجنة العثمانية . (انتهى). لكن الحدود كانت بمثابة سكين قسمت القبائل وأراضيها على جانبيها. السكين لا يمكن أن تقسم الماء، يقول المثل الأفغانى. ربما لهذا نصت المادة السادسة من اتفاقية الحدود على أن: جميع القبائل القاطنة فى كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عهدها. أى أن القديم يبقى على قدمهِ فى ما يتعلق بذلك وتُعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلى العربان والعشائر. وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالى والجندرمة ينتفعون من المياه التى بقيت غربى الخط الفاصل . انتهى.. لكن يبقى أن هذه المادة هى التى تستند إليها إسرائيل فى حق مواطنيها وزوارها، وهم فى هذه الحالة من السياح، بالدخول لحد خط العريش رأس محمد، من دون جواز سفر، وهو الموضوع الذى يثير لغطًا فى مصر والعالم العربى، وتعجز الدولة المصرية عن تبريره، وهو العجز الذى ليس له من سبب سوى عدم إدراك البيروقراطية المصرية (والإنتلجنسيا المصرية عامة) باتفاقية الحدود . ليست الحدود واتفاقياتها هى ما حصلنا عليه من نعوم شقير، حصلنا على ما هو أهم: كتاب تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها، مع خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب وما كان بينها من العلائق التجارية والحربية وغيرها، عن طريق سيناء، من أول عهد التاريخ إلى اليوم.. انتهى عنوان كتاب شقير الطويل. ولكن يبقى أن اليوم الذى يقصده هو 27 مارس 1916 اليوم الذى انتهى فيه من كتابة الكتاب الأهم عن سيناء.