حين وقف الإنجليز مع العثمانيين سنة 1906 على أرض رفح الحالية، ليخطوا الحدود بين مصر وفلسطين، لم يكن اسمها فلسطين. كان اسمها سوريا. لم تكن سوريا قد انقسمت إلى: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. ولم يكن الإنجليز وحدهم الواقفين فى رفح، كانت لجنة إنجليزية مصرية مشتركة، وإن غلب عليها اللون الإنجليزى، ليس لكثرة فى العدد بل لوفرة فى القيمة، فاعتبرها السكان الذين يعيشون على الحدود لجنة إنجليزية. فصاروا كلما تحدَّثوا عن الحدود يقولون «الإنجليز لما جاوا يحدو الحد».. وأحيانًا يقولون «الإنجليز لما جاوا يحدو الاحداد»، لكنهم لا يقولون الحدود (كما نقولها نحن) إلا فى ما ندر. اللجنة الإنجليزية كانت تقابلها لجنة من الدولة العلية (كما كان يطلق على الدولة العثمانية حينها). وتشارك اللجنتين لجنة من أهل المنطقة، فرج ابن سليمان، واحد من أعضائها أو مستشاريها. وهو شاعر بدوى فذّ، من عبيد قبيلة أرميلات التى تقيم على الحدود. (أيامها لم يكن العبيد قد تحرروا تمامًا). واستطاع ابن سليمان بموهبته الشعرية الفذة، أن يتجاوز وضعه الاجتماعى (كعبد) ويصبح واحدًا من عيون قبيلته والقبائل المجاورة. يستقبلونه فى مضارب القبائل استقبال السادة. وببيتين من الشعر يرتجلهما فى قعدته، يفك المُعقَّد من القضايا القبلية. بدأ فرج بن سليمان الكلام وأنهاه، بقصيدته التى كان مطلعها: يا نعوم الأفندى هات الحد عَ القبة وكرم الطير (...). القبة وكرم الطير مكانان مشهوران، تمر بهما اليوم الحدود بين مصر وفلسطين/إسرائيل، وتعرفهما قبائل وعشائر المنطقة جيدًا. فمن هو نعوم الأفندى؟ من اسم الرجل قد يتبادر إلى ذهنك أنه واحد من أعضاء اللجنة التركية. يؤسفنى أن أقول لك إن ما تبادر إلى ذهنك غير صحيح. نعوم بيك شقير (وهذا اسمه) كان عضوًا فى اللجنة الإنجليزية المصرية. من أين جاء شقير؟ لهذا قصة تستحق أن تُحكى.. سنة 1898 نزلت الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون بونابرت على شواطئ الإسكندرية. كان الفرنسيون حينها، بالنسبة إلى سكان مصر، بمثابة ناس هابطين من على سطح القمر، مما شكَّل تحديًا ضخمًا للعقل المصرى، وربما التحدّى الأضخم للشرق الأوسط كله فى العصر الحديث. وكانت النتيجة بعد أن انسحب الفرنسيون، بأربع سنوات، أن ركب كرسى الحكم فى مصر، حاكم فذ هو محمد علِى. وكان على محمد علِى أن يجتاز بمصر القرون الوسطى ليحطها على عتبات العصور الحديثة. انتصب الماضى كله فى وجه الرجل. أكبر تحديين واجهاه فى الداخل، هما المماليك وقبائل العرب، والاثنان من الماضى. تمامًا كما تواجه اليوم الثورات فى الشرق الأوسط قوتين ماضيتين، هما الإخوان والسلفيون، وكأن التاريخ يُعيد نفسه، وإن كان بتجليات مختلفة. اندفع محمد علِى قُدمًا، ومن أولاد الفلاحين المصريين أنشأ الجيش المصرى الحديث. وهو ما يعنى القضاء على منظومة المماليك العسكرية، التى تعتمد على الفروسية، لمصلحة منظومة عسكرية جاء بها بونابرت معه من فرنسا، تعتمد على الضبط والربط والنظام. وهى المنظومة التى نتج عنها أن تحوَّل المماليك إلى كمّ مهمل، ينتظر مَن يقرأ عليه الفاتحة. أما القبائل العربية فقد استقطعها أراضى لتستقر عليها، ومن رفض منهم الاستقرار شَهر محمد علِى فى وجهه الذبح. استقر الداخل، فبدأ محمد علِى الانفتاح على الخارج، وتحديدًا على فرنسا. فبعث البعوث العلمية إلى باريس لتنهل من علوم بلاد الفرنسيس ومن فنونها وآدابها وعمارتها. يتبع..