فلما كانت الليلة الثانية بعد المئة العاشرة.. شوهدت شهر زاد فى ردهة القصر الطويلة تهرول وتحث الخطى وكأنها تنوى الفلسعة والفرار، بيد أن مقصدها كان مخدع شهريار.. وفجأة وكانت تقريبا فى منتصف الردهة انقلب حالها إذ انعوج عودها وانبعج قدها، وأخذت تهز بشدة ما تحت وسطها.. وبينما هى على هذه الحال بتدلع وتموء وتزوم، وصلت أخيرا باب أوضة النوم ونقرت بأصابعها عليه فأتاها صوت شهريار الملك يهتف من جوه: مين اللى بيخبط برة؟ ردت شهر زاد بصوتها المملح: أنا يا مولاى، من فضلك افتح. بسرعة انحل الرتاج وانفرجت ضلفة الباب ودلفت شهر زاد إلى الأوضة وهى ترفل فى فستانا «شفتشى» آخر موضة، فلما رآها شهريار على هذه الصورة زاغ بصره ولم يعد واقفا على بعضه وقال فى سره: سبحان من أبدع هذه «المُزَّة». جلست الجارية بغنج بين يديه وأخذت تبربش له برموشها السود الطويلة المنتصبة كرماح تحرس عيونها، وراحت تلملم مثل مذيعات التليفزيون خصلة نافرة من شعرها بأناملها، لكنها لم تُضِع وقتا كثيرا قبل أن تروى للملك حكايتها الجديدة، وبدأت بالعبارة العتيدة: بلغنى أيها الملك السعيد، أنه فى سالف العصر والأوان كان فى إحدى ممالك العربان أمير مزمن يدعى «الأمير متهان»، حاول أن يصحو ويقوم من مخدعه ذات صباح، لكنه فشل تماما، وبدا واضحا أنه خلاص مات وراح. كانت روح الأمير المزمن «متهان» يا مولاى ملطوعة على باب الجحيم يأنف ويقرف منها حتى الشيطان الرجيم، لكن جسده الذى أكل عليه الدهر وشرب، بقى مسجيا فى جوف القصر حتى مضى الصبح كله وانقضى وقت الضحى وكذلك العصر، حينئذ عربد فى صدور الحاشية الفار، وشاع بينهم السؤال المحتار: لماذا يا ترى تأخر الأمير فى نومه حتى الآن؟ وكان أشدهم عصبية وتوترا وأكثر واحد فيهم قلقان، هو كبير الخدم «العفِش شرقان».. فلما تآكل الزمن واستبد الاضطراب والحيرة بهذا الأخير جمع الطواشى والغلمان وحشدهم أمام باب أوضة «متهان».. وقف «العفِش» وسطهم وسكت قليلا وراح يضرب أخماسا فى أسداس قبل أن يستقر قراره أخيرا، فطفق يصرخ بصوت ينز وينضح بالضجر: واقفين بتتفرجوا على إيه يا أوغاد يا غجر؟ اتحركوا بسرعة واكسروا الباب.. ربنا يستر.. اليوم ده من طلعته شكله كئيب وهباب (هكذا حدث العفِش نفسه). انفتح باب أوضة الأمير «متهان» بالعافية ولم تر عيون الأوغاد جسده المسجى الغارق فى السكون والرقاد بسبب شدة العتمة المخلوطة برائحة عطنة نتنة، لكن لما كبس أحدهم زر النجفة وبدد النور ظلمة الغرفة، اقترب الوزير العفِش من أميره ومولاه الحديدى، وهزه برفق قائلا بخشوع مصنوع: قم يا سيدى.. لكن سيده لم يقم ولا حرك ساكنا طبعا، فانفجر «العفِش» مولولا وأخذ يلطم خديه باكيا، ورقع بصوت حيانى حطم جدار الصمت فى الأوضة، وسمعه القريب والبعيد فى القصر وهوه بيقول: يا لهوتى السودا.. مات الأمير «متهان» بعد كل هذا العمر الطويل وكل هذه الأزمان.. فى مسافة رمشة عين انتشر الخبر السعيد فى البلاد من أدناها لأقصاها ومن براها لجواها.. وفى البداية تداوله الناس دون ما ينطقوا بكلمة ولا حس، واكتفى الشعب الخايف المرعوب برسائل «الإس، إم، إس»، لكن لما تأكد النبأ واطمأن الخلق إلى أن الموضوع مش شائعة وإنما حقيقة ونهائى، زغردت فى الحقول السواقى، ورقصت العيون فى المآقى، وعم الحبور والسرور واتبدد ظلام اليأس وشاع النور.. سرح الخبر فى المصانع وفى الحوارى والشوارع والقهاوى وبين الشباب العاطلين المتسكعين على النواصى، وعَبر بسرعة البرق أسوار المعتقلات والسجون، وأصيبت جحافل المحابيس بحال هيستيريا فرح وهياج، وكأن ألف مليون معتقل جالهم دلوقتى حالا قرار إفراج. لف النبأ الجميل لفته ورجع تانى للقصر حيث منبته، وما زال الأمير «متهان» فى رميته وقد غزا الشحوب والاصفرار رمته. أما قطيع الأتباع اللى كانوا خدامين جزمته، فقد تسربوا وانفضوا من حول جثته واحد ورا التانى، وهجر الجميع غرفته، ولا ندل منهم اهتم يسأل عن المدام والأولاد.. لكن شهود العيان بيأكدوا وبيحلفوا بأغلظ الإيمان أن الأندال قبل ما يفلسعوا وينطوا من المركب الغرقان اتخانقوا مع بعضهم وراح كل واحد منهم يرمى على التانى آخر المهمات.. مين اللى ح يتجرأ ويدخل على الأمير بثبات، ويبلغه أن سموه رحل وانتهى وخلاص مات؟! (كتبت ونشرت قبل خلع «الأمير متهان»).