واصلت أسعار النفط الخام، هذا الأسبوع، موجة التراجع التى تشهدها منذ منتصف العام الحالى تقريبًا لتصل إلى مستويات متدنية لم تبلغها منذ شهر أبريل 2011. وعلى الرغم من أن أسعار النفط تقترب من مستويات دعم مهمة عند سعر 75 دولارًا للبرميل بالنسبة لخام غرب تكساس، و80 دولارًا للبرميل بالنسبة لخام برنت، فإن تعافيًا سريعًا من تلك المستويات المنخفضة نسبيًّا عما عرفته أسعار النفط منذ عام 2012، لا يبدو متوقعًا قبيل نهاية عام 2015 على الأقل. فى مقابل هذا الانخفاض أحجمت دول أوبك، خصوصًا كبار منتجيها من دول الخليج العربية، عن خفض مستويات الإنتاج لاستعادة زخم صعود أسعار النفط، مما يطرح تساؤلًا جوهريًّا حول ما إذا كان الانخفاض الحالى فى الأسعار فى مصلحة دول المنظمة، أم أنه يعنى نهاية عصر «أوبك». يرجع الهبوط الحالى فى أسعار النفط إلى عدد من العوامل الظرفية والهيكلية على السواء، والتى يلزم فصل تأثيراتها تحليليًّا لفهم الدلالات بعيدة المدى لمثل هذا الهبوط. ويعد أول العوامل الظرفية -وربما يكون أهمها- ارتفاع سعر الدولار مقابل سلة العملات الرئيسية حول العالم منذ مطلع عام 2014، وبشكل متزايد منذ منتصف العام، مما عزَّز الاتجاه الهبوطى لأسعار النفط المقيمة بالدولار. وتشمل العوامل الظرفية كذلك تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد الصينى واستمرار حالة ركود الاقتصاد الأوروبى، حيث يحد هذان العاملان من النمو فى الطلب على النفط خلال الأمد القصير حتى نهاية عام 2015. فى المقابل، لا تتيح الأوضاع الاقتصادية لأغلب دول أوبك باستثناء الإمارات العربية المتحدة والكويت والسعودية، أن تقوم بخفض معدلات إنتاجها من النفط، خصوصًا أن العائد الذى قد يترتب عن أى ارتفاع فى الأسعار نتيجة خفض الإنتاج قد لا يعوض ما ستتم خسارته نتيجة خفض الإنتاج فعليًّا. وفى المقابل، يبدو أن السعودية اتخذت قرارًا بالحفاظ على حصة أكبر من سوق النفط العالمية، بدلًا من المراهنة على عوائد غير مضمونة نتيجة ارتفاع الأسعار. ولعل القرار السعودى يعود إلى الخشية من تزايد إنتاج النفط والغاز الصخريين فى أمريكا الشمالية، واحتمال توسُّع هذا الإنتاج فى مناطق أخرى حول العالم. يعد التوسع فى إنتاج النفط الصخرى أحد أهم العوامل الهيكلية والذى يبدو أنه سيكون له دور حاكم فى تحديد اتجاهات التأثير فى النظام النفطى العالمى. وأتاحت الثورة فى إنتاج هذا النفط غير التقليدى للولايات المتحدة أن تقود الزيادة السنوية فى إنتاج النفط عالميًّا، وهى الزيادة التى تعد أهم العوامل الهيكلية وراء الانخفاض الحالى فى أسعار النفط. لكن يبقى السؤال المراوغ: هل يمكن لهذا التسارع فى الإنتاج الصخرى أن يستمر فى ظل أسعار النفط المنخفضة، خصوصًا إذا ما استمرت لفترة غير قصيرة من الوقت؟ يذهب عديد من التحليلات العربية إلى أن الانخفاض الراهن فى الأسعار سيؤثِّر سلبًا على الاستثمارات فى مجال إنتاج النفط الصخرى استنادًا إلى أن التكلفة الاستثمارية المبدئية اللازمة لإنتاج برميل من النفط الصخرى تتراوح من 70 إلى 90 دولارًا أمريكيًّا، إلا أن هذه التحليلات تتغافل عن أن التكلفة التشغيلية لمشروع إنتاج نفط صخرى يرجح أن تنخفض بما يتراوح بين 35 و70% مع تزايد إنتاج المشروع وتجاوزه 500 مليون برميل، ليتراوح متوسط تكلفة البرميل فى هذه الحالة ما بين 35 و45 دولارًا للبرميل. وحسب تصريح نقلته «رويترز» الشهر الماضى عن المديرة التنفيذية ل«وكالة الطاقة الدولية» فإن 98% من مشاريع إنتاج النفط الصخرى فى الولاياتالمتحدة يمكنها تحمل أسعار نفط تقل عن 80 دولارًا للبرميل، بينما يتوقع أن تستمر الجدوى الاستثمارية ل84% فى ظل أسعار نفط تبلغ 60 دولارًا أو أقل. وإذا كانت تلك التقديرات مرتبطة بمستوى تكنولوجيا الاستخراج المتوافرة حاليًّا، فإن تطور تلك التكنولوجيا سيقود إلى خفض تلك التكلفة وزيادة الجدوى الاستثمارية لهذه المشاريع. فى هذا الإطار، يبدو أن التحدِّى بعيد الأمد أمام «أوبك» ودولها، لا يكمن فى حدوث انخفاض دراماتيكى فى أسعار النفط يُحدِث أضرارًا جوهرية باقتصاديات هذه الدول، وباستقرارها السياسى بالتبعية. ذلك أن الاتجاه طويل الأمد هو ازدياد الطلب العالمى على النفط، وعلى الطاقة عامة بمعدلات تفوق كثيرًا ما يتم إنتاجه حاليًّا. وحسب أحدث تقارير «وكالة الطاقة الدولية السنوية» حول أفق الطاقة عالميًّا، والذى صدر، أول من أمس «الأربعاء»، فإن الطلب العالمى على النفط يتوقع أن يبلغ نحو 104 ملايين برميل يوميًّا عام 2040، مقارنة ب90 مليون برميل يوميًّا عام 2013. لكن التحدِّى الرئيسى أمام «أوبك» باعتبارها حجر زاوية النظام النفطى العالمى يتمثَّل فى احتمال انتشار استخراج النفط الصخرى عالميًّا، حيث تبلغ احتياطياته العالمية، حسب وكالة الطاقة الدولية، نحو خمسة تريليونات برميل تنتشر فى نحو 600 مكمن حول العالم، مقابل 1.3 احتياطيات مؤكدة للنفط التقليدى. بل ويتوقع أن تزداد احتياطيات النفط الصخرى بتطور تكنولوجيا استخراجه. وربما يكون اللجوء إلى النفط الصخرى خيارًا استراتيجيًّا للدول التى يتوقع أن تشهد أعلى معدلات زيادة فى الطلب العالمى على الطاقة، خصوصًا الصين، حيث إن الاعتماد بشكل شبه تام على نفط الشرق الأوسط ربما لا يكون هو الخيار الأمثل فى ظل الاضطرابات والصراعات السياسية القائمة -والمحتملة- التى تشهدها المنطقة والعديد من دولها. وهنا لن تواجه «أوبك» فقط خطر فقدان قدرتها على تحديد اتجاهات حركة أسعار النفط العالمية وضبطها، ولكن ربما الأخطر فقدان جزء مهم من حصتها فى سوق النفط العالمية.