تستهوينى كثيرًا كتب السيرة الذاتية، ربما لا تقول كل شىء بجرأة قريناتها فى الغرب، لكنها على الأقل تشهد على زمنها، وتتيح فرصة لتأمُّل ما يفعله الزمن بالبشر وبالأماكن، وتفتح أبوابا لاكتشاف أدوار وشخصيات لم تنصفها الذاكرة المكتوبة. مذكرات فنان الكاريكاتير الكبير أحمد طوغان، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، من تحرير أحمد كمال زكى، والتى تحمل عنوان «أحمد طوغان.. سيرة فنان صنعته الآلام»، ينطبق عليها الوصف السابق، حياة صاحبها الخصبة (من مواليد عام 1926)، ومكانته كأحد أبرز روّاد فن الكاريكاتير المصرى والعربى، واقترابه من شخصيات مهمة، مثل أنور السادات وعزيز المصرى ومحمود السعدنى وزكريا الحجاوى، ومعاصرته لوقائع تاريخية (قام بتغطية أحداث ثورتَى الجزائر واليمن)، كل ذلك جعل من الكتاب، الصادر فى نحو 436 صفحة، سياحة ممتعة، تجبر القارئ على متابعة السرد، فى انتقاله السلس من الخاص إلى العام والعكس. فى خطوط طوغان، التى شغفتُ بها وأنا صغير، جنبا إلى جنب مع خطوط رخا وجاهين وحجازى والليثى ومصطفى حسين، نفس الصراحة والوضوح والقوة التى سجّل بها شهادته، لا تلتبس الملامح ولا يوجد اللون الرمادى، يحكى طوغان عن طفولته وأسرته، عن والده رجل البوليس الذى كان ينتقل من مدينة إلى أخرى، عن أمه العظيمة التى لم ينسَ مرارة فقدانه لها، عن المنيا وأسيوط والقاهرة والجيزة حيث عاش وتعلّم، عن نزق الطفولة وقيامه بإشعال النار فى المنزل بعد أن ضربه والده، عن معاناته فى المستشفى مع حروق من الدرجة الرابعة، عن شقيقه عبد السلام الذى رحل مبكرا، وأورثه شعورًا لا ينمحى بالذنب، لاعتقاد الفنان الكبير أنه قصّر فى العناية به، يكتب طوغان بعبارات صادقة عن قصص حبه، عن ابنه بسام الذى مات شابًّا، وعن حفيده (ابن بسام) الذى لا يعرف الجد ملامحه، بعد أن منع من رؤيته إثر انفصال أبويه، فى هذه اللقطات الإنسانية نبرة صدق آسرة ومؤثرة. حسنا فعل الكتاب عندما جعل من الشخصيات التى عرفها طوغان وسيلة مزدوجة لكى نكتشفهم، ولكى يحكى الفنان الكبير قصة حياته من خلالهم: أنور السادات الذى عرفه طوغان فى منزل زكريا الحجاوى، وفى عزومة على أكلة سمك، ثم انضم السادات إلى شلة مقهى محمد عبد الله فى الجيزة، يقول طوغان إنه قال يومًا للسعدنى عن السادات: اللى مش عارفه ده ح ييجى يوم ويحكم مصر»، وقد كان، أما زكريا الحجاوى فترسم له المذكرات صورة رائعة كعاشق لوطنه، إنسان كريم ومثقف وواسع الخيال، حكّاء مذهل، وأمير من أمراء الكلام، رجل لا يخشى الفقر، ولكنه يرتعب من القطط، فيطلب من ابنته سوزان أن تنزل لكى تحرس صعوده إلى البيت، بعد عودته متأخرًا فى كل ليلة! فى المذكرات مقالب محمود السعدنى وسخريته اللاذعة، وفيها عرفان بالجميل للكبير محمد عبد المنعم رخا، الذى أنقذ طوغان من الإحباط، بعد أن كاد الأخير يعتزل الرسم مع أول فشل، فيها شهادته عن أستاذية إحسان عبد القدوس وحكمة كامل زهيرى، ولكنه يقدم تفصيلات مهمة أيضا عن شخصيات عظيمة منسية، مثل مصطفى القشاشى، الذى باع أرضه وعقاراته فى سبيل أن يكون للصحفيين نقابة، والصحفى الجَسور أبو الخير نجيب الذى تحدى الملك بمقالاته وسُجن بسببها، فلما حدث انقلاب يوليو 1952 حُوكم بتهمة الخيانة، سجنوه من جديد، وجردوه من جنسيته، ومات فى حادثة سيارة أمام نقابة الصحفيين، والصحفى المناضل سعد زغلول فؤاد صاحب البطولات فى معارك القناة بعد إلغاء معاهدة 1936، والصحفى الكبير فتحى الرملى (والد لينين الرملى) الذى كان له دور مهم فى إمداد الفدائيين فى القناة بالعتاد والمؤن، والمحامى والكاتب المبدع عباس الأسوانى، أحد عشاق الحياة والفن. يقترب طوغان من صاروخان وبيرم، يعاصر الصحف الخاصة والصحافة المؤممة، يرافق السعدنى فى مشروعاته الصحفية الفاشلة، يرسم فى جريدة «الاشتراكية»، ويشارك فى تأسيس جريدة «الجمهورية»، ويؤسس مجلة «كاريكاتير» ويرأس تحريرها، يتردد على شقته فى شارع شريف ما يقترب من 30 ضيفا فى اليوم الواحد: الحجاوى والأسوانى والسعدنى وإحسان ويوسف الشريف وعبد الرحمن الشرقاوى ولويس جريس والممثل محمد رضا وعبد المعطى حجازى وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الخميسى ومعين بسيسو وعبد الوهاب البياتى ومحمد الفيتورى، تشهد لوحات طوغان على بيوت اليمن وجبال الجزائر وقصور براج وكرنفالات كوريا الشمالية، يرصع كتابه برسومه الكاريكاتورية السياسية التى تواكب قضايا مصرية وعربية مزمنة، أبرزها الصراع العربى الإسرائيلى، ويحمل الكتاب صورًا نادرة فى إحداها يقف بجوار بيرم التونسى، وفى أخرى يجلس وراء أحمد بن بيلا، وفى صف واحد مع أرنستو جيفارا، وفى ثالثة يقف طوغان وسط ألفريد فرج ومحمد عودة وحسن فؤاد وعبد الرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس. أحسب أنها مذكرات عن وطن وجيل ومهنة، وليست فقط مذكرات عن فنان كاريكاتير من جيل الروّاد، لحسن الحظ لم يعرف السجون، لأنه لم ينضم أبدا إلى أحزاب سرية أو تنظيمات ممنوعة، لكنه ظل منحازا دائما فى رسومه للغلابة، ومدافعًا عن حقوق الشعوب فى العيش بحرية وكرامة، طوغان اسم لن يُنسى فى ذاكرة الصحافة والوطن معا.