قبل أيام، وفى سلوك يطبق حرفيا معنى كلمة المشاركة المجتمعية عمليا وليس شفهيا، على طريقة الحكومات المصرية المتعاقبة، لجأت وكالة أنباء «أسوشيتد برس» الأمريكية العريقة -تأسست عام 1846- لسؤال قرائها ومتابعيها عبر موقعها الإلكترونى عن المصطلحات التى تستخدمها الوكالة فى تقاريرها وبحاجة إلى ضبط لغوى أو إعادة تعريف أكثر دقة. الوكالة -غير الربحية بالمناسبة- فعلت ذلك بغرض أن تنقى «الكتاب المقدس للصحفيين» الذى توزعه على موظفيها مطلع كل عام، ويعرف باسم «style book»، من أى التباسات أو إيحاءات تغير المعنى أو تحمل إهانة ضمنية لأصحاب مهنة أو سكان منطقة أو أتباع مذهب معين.. هذا سلوك حضارى كما ترى، وأمامنا آلاف من السنين الضوئية قبل أن يصل إلينا فى بلد رأسماله اللفظى هو «لخبطة المفاهيم والمصطلحات»، ومنهجه الرئيسى الذى يتم تعليمه عبر شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد هو «اللى نفسه فى حاجة يقولها». المثير فى الأمر أن المصطلح الذى حاز على أكبر حملة لتغييره هو مصطلح «العاهرات»، وطالب آلاف على الموقع إدارة وكالة الأنباء الشهيرة أن تتوقف عن استخدام هذا اللفظ، وأن تستخدم بدلا منه مصطلح «عاملات الجنس»، وذلك لأن هذا المصطلح «أكثر دقة وإنصافًا لهذه الشريحة المجتمعية التى تعانى فى صمت اضطهادًا واستغلالًا فى كل ربوع العالم»، حسب ما كتب المدافعون عن ذلك. تعرف أنت طبعا الاسم الشعبى الذى نتداوله فى مصر للعاهرات أو عاملات الجنس، وهو لفظ مهين يحمل صاحب المهنة كل آثام الدنيا ويبرئ الذى يشترى منها الخدمة من كل الخطايا! ولا أحد يعرف أى صدمة عصبية سيصاب بها المدافعون عن أهل هذه المهنة العابرة للأزمنة والتاريخ، إذا جاء أحدهم فى زيارة لنا، ليفاجأ بأن قائمة المصطلحات التى تحتاج إلى ضبط وتقنين لا تقف إطلاقا عند حدود بائعات الهوى، فالأمر أكثر تجذرا حضرتك. من الإرهابى؟ ومن الوطنى؟ ما معنى الحرية؟ وما مفهوم حق التظاهر؟ من الإعلامى.. هل هو أى شخص يظهر على شاشة التليفزيون ل«يطرش» أى كلمتين والسلام؟ ما مفهوم التحريض؟ وكيف يمكن أن نطلق لفظ صحفى على شخص يشتم خلق الله بالأب والأم، ويحرض على قتلهم أو سجنهم دون محاكمة حتى؟ ما التعريف الدقيق لمن ينام فى حضن السلطة مهما تغير لون السرير أو شخصية الحاكم وفحولته؟ ما معنى كلمة «الأمن القومى»؟ ومن يضع لها شرحا محددا غير مطاطى يستخدمه كلما أراد من أراد؟ يعنى إيه رجل أعمال؟ هل هو الذى يعمل أعمالا سفلية للفلوس والسلطة؟ ما مفهوم حرية الإعلام إذا كنت تريد الجميع يتحدثون بلغة واحدة؟ 25 يناير ثورة ولّا تظاهرات حاشدة؟ 30 يونيو تظاهرات حاشدة أم استكمال لثورة سابقة، كانت فى الأصل مظاهرات حاشدة؟ معزول أم خائن أم فاشل؟ مخلوع أم قاتل أم فاسد؟ من البلطجى ومن المواطن الشريف؟ مصر بحاجة إلى «style book» كبير، ينقى ويفلتر ويهذب ويشذب كل هذا العك من المصطلحات الذى نعيشه، ونسمعه كل يوم من قبل ناس لا يعرفون فحسب الفارق بين «اليقين» و«الشك»، أو بين المعلومة والرأى، بل حتى لا يعرفون أن هناك من يرى بأن ثمة اختلافا وفارقا بين «العاهرات» و«عاملات الجنس».