جالس ويدِّى على خدِّى! أنا واحد من غمار الناس، ومثلى مثل ملايين المصريين الغلابة، لكن لا تتصور أننى قليل الشأن، أو عديم القيمة، فأنا، وأمثالى من البسطاء، يمكننا أن نخلع الحكام المستبدين، ونُسقط «الفراعنة» من فوق عروشهم الذهبية، فحين عرفنا بما حدث ليلة 25 يناير 2011، إذ هجمت قوات الشرطة المدعومة بالبلطجية على الثوار المعتصمين فى ميدان التحرير، وضربتهم بعنف، وطردتهم من الميدان، واحتلت الميدان بالقوة، بسبب هذا الذى جرى فى التحرير، وما حدث كذلك فى السويس والإسكندرية وغيرها، نزلنا، نحن أفراد الشعب العزل، يوم 28 يناير، فى «جمعة الغضب»، ودحرنا قوات الأمن المدججة بالسلاح، فى بضع ساعات! ونحن، أيضا، الذين نزلنا بالملايين فى ذكرى الثورة، وفى محمد محمود، وفى مواقع عديدة، وأرغمنا المجلس العسكرى على تسليم السلطة. ثم نزلنا فى 30 يونيو 2013، بأعداد غفيرة، عُدت بعشرات الملايين، ومن ثم تم عزل مرسى وجماعته المتسلطة، وها هم يحاكمون بتهم كثيرة جدا، ولا ندرى هل هى تهم حقيقية أم ملفقة؟! لكن التهمة الأهم، والتى لا يحاكمون بسببها هى: «الغباء السياسى»! والآن، ألا يمكن أن نهب من جديد، وننزل بالملايين كما فعلنا من قبل؟ بالتأكيد ممكن، لكننا، كما أقول لك، وأؤكد، لن نتحرك الآن، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أننا لا نريد للفلول ولا الإخوان أن يعودوا إلى السلطة، مرة أخرى، كما أننا لن نقدم التضحيات من أجل أن يأخذ عسكرى، مكان عسكرى آخر! لكن، هذا لا يعنى أننا راضون عن الوضع الحالى، إذ إن وضعنا حاليا ليس أفضل من أيام مرسى، ولا أفضل من أيام المجلس العسكرى، ولا أفضل حتى من أيام مبارك، على العكس، فمعاناتنا اليومية، الآن، أشد من كل هذه المراحل الصعبة، وإنما نحن شعب طيب، ومسالم، وصبور جدا، وقد قالوا لنا إنهم سيعملون بأقصى طاقتهم من أجل إصلاح حال البلد، وتشغيل أولادنا العاطلين عن العمل منذ سنوات عدة! وها نحن ننتظر أن يحققوا ما وعدونا به، فأنا شخصيا عندى أربعة أولاد، شباب، أتموا تعليمهم، ولا يجدون عملا، ولا يمكن أن نعيش هكذا، لقد صبرنا طويلا، وما زلنا صابرين، على أمل أن ينصلح الحال فعلا، وتدور عجلة الإنتاج، ويلتحق أبناؤنا بأعمال شريفة، لكى يأكلوا، ويتزوجوا، ويعيشوا.. ونحن (الغلابة) نمتلك حسا وطنيا، ووعيا تاريخيا، ونتابع باهتمام كل ما يحدث على أرض الوطن، فبعض الشباب الغاضب يتحركون فى مظاهرات هنا وهناك، وثمة معركة تسمى «الأمعاء الخاوية» يخوضها محبوسون يشعرون بالقهر والظلم، وآخرون خارج السجون، يتضامنون معهم، لوجود إحساس عام بفقدان العدل، وعندما تبدأ الدراسة فى الجامعات المصرية، نتوقع أن تندلع مظاهرات الطلاب أيضا. لكن، أنا وأمثالى من أفراد الشعب المطحون لن نشارك فى كل هذه الفاعليات الثورية، مع أننا نُدرك تماما كل ما يجرى فى مصر، بيد أننا كبار، وعاقلون، وما زلنا صابرين على من يحكمون هذا البلد الطيب، لكن إلى متى سنصبر عليهم؟ سأقول لك بصراحة: أنا، وأمثالى، من ملح الأرض، سننتظر لنرى، ماذا سيحدث فى مصر؟ وهل فعلا سينصلح حال البلد، ويتم تشغيل أولادنا العاطلين؟ أم أن مصر ستبقى مكانا يتنعم فيه، فقط، أولاد البطة البيضاء؟! إذا الحال انصلح، والشباب وجد عملا شريفا، وبدأت حركة الإنتاج الحقيقى تعمل بجد، ودارت المصانع المتوقفة، واستصلحنا الأراضى المهملة الصالحة للزراعة، وعادت السياحة وازدهرت، ودبت الحياة فى ربوع الوطن، فبها ونعمت. أما إذا بقى الحال على ما هو عليه، ونفد صبر الغلابة، فعندئذ سننزل بالملايين، ونزلزل الأرض من تحت أقدام أهل الحكم جميعا، كما سبق وفعلنا، فشعبنا الأبىّ لن يقبل أبدًا بالظلم والفساد، ولا بالخراب والاستبداد، وعلى من يحكمون مصر أن يدركوا هذه الحقيقة الواضحة وضوح الفقر فى ربوع المحروسة. «كلام رجالة» أنا شابة مصرية، وأعانى مما يعانى منه الشباب، فى هذا الزمن الصعب، بالإضافة إلى أننى صاحبة تجربة خاصة فى تصديق «كلام الرجالة»! وأعتقد أن تفاصيل تجربتى الشخصية غير مهمة بالنسبة إليكم، لأن معظمكم، كما أحسب، قد مر بهذه الخبرة الإنسانية المرة. فثمة كلام كثير يُقال فى الليل، أو فى النهار، وبمجرد ما تشرق شمس اليوم التالى، يتلاشى تماما، وكأنه لم يكن! ويبدو لى أن هذه المسافة الشاسعة بين «القول» و«الفعل»، ظاهرة متفشية فى مجتمعنا المعاصر، ولننظر إلى عدم احترام الناس ل«الكلمة» فى السنوات الأخيرة، ولعل الأمر له علاقة بنظام الحكم، فمن كثرة ما سمع المواطنون كلاما معسولا من المسؤولين، دون تنفيذ شىء على أرض الواقع، فقد الكلام معناه، ولم تعد للكلمة قيمة فى ذاتها! ومن ثم تسمع الناس يستخدمون عبارة: «كلام جرايد» للتعبير عن إحساسهم بعدم أهمية أى كلام يُقال، ويكتب بالبنط العريض فى الصحف، وكما تقرأ فى الصحف «كلام فاضى»، كذلك تسمع فى محطات الراديو، وتشاهد على شاشات التليفزيونات كلاما أخطر من كون بعضه «أى كلام»، كون بعضه الآخر «كذبًا فى كذب»! وحتى فى ساحات المحاكم، وأمام منصة القضاء، سمعنا وشاهدنا بأنفسنا أحاديث ملفقة كثيرة، وأكاذيب مسلسلة طويلة، وكلامًا غريبا ما أنزل الله به من سلطان، وقد صدرت بعض الأحكام القضائية، التى لا يصح أن نعلق عليها، بما تستحقة من عبارات شديدة، لكنّ ثمة تعبيرًا مخففا يجرى على ألسنة الناس، كل يوم، فى الشارع، عن «أحكام القضاء المسيس»! إن الكذب هو قول ما يخالف الواقع، أو يجافى الحقيقة، لكن المشكلة الحالية، كما أراها، لا تنحصر فحسب فى مخالفة الحقيقة، وإنما ثمة إصرار خبيث على تضليل الناس، من خلال ما تبثه وسائل الإعلام ومواقع النت، وكأنما هناك حرب دائرة على أشدها من أجل الاستحواذ والسيطرة على عقل المواطن! ولذلك أنصح كل فتاة، وكل شاب أيضا، أن يعمل عقله جيدًا فى كل ما يسمعه، أو يقرؤه، أو حتى يشاهده، إذ لا بد من الفحص والنقد والتمحيص، وإعمال قُدرتنا النقدية فى فرز كل ما يصل إلينا من أحاديث وأخبار ومعلومات، حتى لا نسمح لأحد، مهما كان، أن يضللنا فى عصر الأكاذيب هذا. رحلتى فى «الألسن» أود أن أوضح فى البداية أننى تخرجت فى كلية الألسن جامعة عين شمس، ليسانس لغة ألمانية، عام 2011 مع العلم أنه فى أول سنة لى بالكلية لم أكن أعرف اللغة الألمانية جيدًا، فقد تعلمت بعض أسسها بالمدرسة، ولكننى لم أعِرْها اهتمامًا. عند حضورى لأول محاضرة ترجمة من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية، أصبت بالدهشة من عدم قدرتى على التفاعل والترجمة فى المحاضرة، حاولت مرارًا أن أترجم بعض الجمل بالنص الذى كان فى الواقع بسيطًا، أخذت أتابع المحاضرة، وأسمع بعض محاولات زملائى، البعض يصيب، والبعض يقترب من الترجمة المطلوبة، والبعض يشاهد، أما أنا فشعرت بالإحباط الشديد من عدم قدرتى على تكوين جملة واحدة مفيدة، مثلما يفعل الآخرون، مع العلم أن معظم الزملاء لم يدرس اللغة من قبل، على عكسى أنا! ظهرت نتيجة الفصل الأول من العام الدراسى الأول، وكان التقدير العام «مقبولا»؟! ويا لها من صدمة!! خطر لى عديد من الأفكار، منها أن أقدم طلبا لتحويلى إلى قسم لغة أخرى. ثم بدأ الفصل الدراسى الثانى، وأنا أشعر بالضيق من كل ما حولى فى هذا الصرح العملاق الذى لا أجد فيه نفسى. وبعد فترة وجيزة اتخذت قرارًا بعدم الاستسلام، وعدم اليأس. وبدأت أعلِّم نفسى فى المنزل، وأتقبل فكرة عدم معرفتى الجيدة باللغة، وأخذت فى التركيز فى المحاضرات، والاستماع الدقيق لمخارج الألفاظ، والقواعد اللغوية. ومع انتهاء العام الدراسى الأول جاءت النتيجة النهائية بتقدير «مقبول»، ولم يحل بينى وبين تقدير «جيد» سوى أربع درجات! شعرت فى البداية بالإحباط، ولكن عاهدت نفسى منذ ذاك الحين فصاعدًا أن لا أسمع هذا التقدير مجددًا. ومع بداية العام الدراسى الثانى، واظبت على الحضور التام بكل حواسى، وبذلت جهدًا كبيرًا فى الدراسة، واشتركت فى دورات معهد «جوته» لدراسة اللغة الألمانية وأصبح فى إمكانى، مع مرور الأسابيع والشهور والسنوات، أن أترجم بصورة أفضل، وأتحدث أيضا بشكل لائق فى محاضرات «المحادثة» بالكلية، والمعهد، وكان التقدير النهائى منذ ذاك الوقت فى كل عام من الكلية «جيد جدا». وتخرجت فى الكلية بعد مرور أربع سنوات، وتقديرى العام «جيد مرتفع». كم شعرت بالفخر عندما أكملت دراستى، وأصبحت أتحدث الألمانية بطلاقة بعد أن أصابنى اليأس من دراستها، وكدت أنتقل إلى دراسة لغة أخرى. وأعتقد أننى لم أكن لأصل إلى تدريس اللغة الألمانية بإحدى المدارس المرموقة، لو أننى استسلمت ليأسى، واتبعت الطريق السهل، وهو التراجع. أحيانًا نترك اليأس يتملكنا، ويقضى على طموحاتنا، ويثبط عزيمتنا، ويهدم أحلامنا، لأننا لا نريد أن نواجه بعض الصعوبات التى تقف فى طريقنا إلى الهدف. فلا تدع الحواجز تقف بينك وبين حلمك، لأنك لن تفشل أبدًا إذا حاولت مرارًا، ولم تيأس. (هذه الرسالة من الأستاذة سلمى نشأت جعفر)