من الشائع أن نجيب محفوظ كان يبتعد عن اتخاذ مواقف حاسمة، لها علاقة بالموقف السياسى الواضح فى مواجهة الدولة، ودوما كان يعبّر عن نفسه فى الفن الروائى، ويشاع أنه كان حياديا عندما يتحدث أو يكتب مقالات، ويعتبر أن مضمون آرائه التى ترد فى رواياته هى موقفه الواضح، لأنه فنان بالأساس، والفن هو أداته الكبرى فى التعبير عن نفسه، ورغم ذلك فكان نجيب محفوظ محل جدال دائم، وكان فى جلساته المتعددة بين تلاميذه ومحبيه يطرح أفكاره، وكان جلّاسه يحاولون توجيه الحديث غالبا نحو مناطق سياسية ساخنة، وكان هو يحاور ويداور ويستفيض فى آرائه السياسية الممزوجة بنوع من الفلسفة، وهذا ما رأيته بنفسى فى الجلسات التى كان يعقدها فى مقهى ريش فى أواخر السبعينيات قبل أن ينتقل إلى أماكن أخرى، وكان الراحل إبراهيم منصور هو الشخص الأكثر إثارة ومناوشة للأستاذ، وأعتقد أن نجيب محفوظ نفسه قد انفلت من قضبان حذره التاريخى الطويل فى التعبير عن آرائه بشكل واضح، وبالتالى اتخاذ مواقف حاسمة وواضحة، بطرق ليست حادة وليست صدامية، وبدا هذا فى أزمة البيان الشهير الذى صاغه المثقفون والكتاب فى أعقاب اجتماع كبير بمقر نقابة الصحفيين فى 25 يناير 1972 تضامنا مع الحركة الطلابية الوطنية، وجاء فى البيان هناك مطالب عديدة، وعلى رأسها الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وعدم محاكمة أى طالب أو تقديمه إلى مجلس تأديب جامعى، كذلك الرفض الكامل لكل أشكال الحل السلمى «قرار مجلس الأمن 242» مبادرة روجرز المصرية، وتصفية مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية فى مصر، والعمل على تصفيتها فى الوطن العربى، ثم التأييد الكامل لمنظمات المقاومة الفلسطينية، وإعادة فتح جميع مكاتبها الإعلامية والسياسية، وقبول تطوع المصريين فى صفوفها، وهذا تلخيص شديد التكثيف لمطالب البيان الوطنى للكتاب والفنانين المصريين، وكان سوف يلقى البيان فى المؤتمر الذى طالب الكتاب والمثقفون بانعقاده فى 27 يناير، لكن النقابة تحت الضغوط الأمنية قررت منع انعقاد هذا المؤتمر، وكان لويس عوض يعمل على مؤازرة الحركة الطلابية بكل طاقته، وكان قد كتب مقالا عنوانه: «تقرير حول المسألة المصرية»، ونشرته «الأهرام» فى يوم 21 يناير، واعتبره الطلاب نوعا من المساندة الوطنية العظيمة، وفى تلك الأثناء اجتمع الأدباء لويس عوض وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزى وأحمد بهاء الدين، وصاغوا بيانا لمساندة الحركة الطلابية، ومطالبها الوطنية المشروعة، وكان البيان جادا حادا فى صياغته ومضمونه، وهذا كان يعتبر خطوة واسعة فى حركة نجيب محفوظ السياسية، وبعدها اتخذ نجيب محفوظ عدة مواقف تحسب له، رغم تقريع السلطة السياسية آنذاك لهم جميعا، وهذا غير تقوّل بعض الأدباء والكتّاب الشكاكين فى النوايا التى تقف خلف إصدار البيان من أساسه، ثم جاءت أزمة مجلة الكاتب التى سردنا تفاصيل أزمتها فى حلقتين سابقتين، وهنا أنشر الشهادة الكاملة والمجهولة لنجيب محفوظ فى مواجهة السلطة السياسية والثقافية آنذاك، ونشرت فى مجلة الآداب اللبنانية فى نوفمبر 1974، وهذا نصها: («1» مجلة الكاتب مجلة ممتازة تمثل تيارا فكريا جديرا بالتعبير عن ذاته. أولا: لأنه تيار موجود، وكل تيار موجود له الحق، فى نظرى، فى التعبير عن ذاته. ثانيا: وفضلا عن ذلك فهو لا يتناقض مع تيار الدولة التى تسير فى طريق الاشتراكية. «2» قيل لى أن الأستاذ وزير الثقافة يصرّ على مصادرة هذا التيار، فاستنكرت ذلك، ولم أكد أصدقه، ثم اطلعت على مقال الأستاذ الوزير فى جريدة الجمهورية فاقتنعت أن المشكلة القائمة بين سيادته وبين المجلة مشكلة رقابية لما يعتقد أنه خروج على الخط الوطنى. «3» السؤال كيف ينبغى أن يتصرف الوزير فى ما يعتقد أنه خروج على هذا الخط الوطنى؟ هل يمنعه بوساطة موظف فى المجلة من أهل ثقته؟ إنه لحل معقول لو كان الوزير وزيرا للإعلام مثلا، لكن سيادته وزير للثقافة، والثقافة: أولا: نطاقها ضيق للأسف الشديد، وجميع روادها على درجة من الوعى تجعلهم يفكرون فى ما يقرؤون. ثانيا: إن الوزير الأديب لا شك يؤمن بأنه لا حياة للفكر والثقافة إلا فى مناخ الحرية الكاملة. لذلك أفضّل أن تطلق الحرية للكاتبين كما تطلق الحرية للمناقشة والحوار، فيجىء التصحيح عن طريق القلم والكلمة لا عن طريق الرقيب. «4» أقترح على الوزير الأديب أن يدعو مجلس المجلة القديم إلى لقاء جديد، وأن لا يعتبر التراجع عن قراره هزيمة، فطالما قابل هجوم أعدائه بالتسامح الكريم، فضلا عن أن التراجع إلى ما يعزّ الفكر والثقافة يعتبر تقدما ونصرا وكرامة). ومهما كانت الحصافة التى جاءت بها شهادة نجيب محفوظ، إلا أنها كلمة شجاعة فى مواجهة سلطة كانت عاتية وباطشة وقمعية، وكذلك نجيب محفوظ كانت تربطه علاقات شخصية بيوسف السباعى، لكنه لم يكتم الشهادة عندما طلبت منه، ولم يدفن رأسه فى الرمال الناعمة، كما يفعل كثيرون من الكتّاب ساعتئذ وحتى الآن، وكذلك فالشهادة توضح موقف نجيب محفوظ الليبرالى الأبدى، وسليل مبادئ حزب الوفد «القديم» فى إيمانه بحرية التيارات الفكرية فى التعبير عن ذاتها طالما هى موجودة وقائمة.