رمضان كريم، ومن أجمل ما يمنحنا بكرمه ذكريات طفولتنا التى كانت تبدأ فى هذا الشهر الفضيل بالفانوس الذى كان يُباع بقروش زهيدة، رغم أن صناعته كانت تستغرق وقتا وجهدا كبيرا، فلم يكن الفانوس قد عرف طريقه إلى خطوط الإنتاج الضخمة، بعد أن احتلت الصين كل احتياجاتنا الضرورية وغير الضرورية من منتجات بما فيها ما يرتبط بالأعراف والتقاليد والموروثات الدينية والاحتفالية، وبهذا لم يفلت الفانوس من تحت يد «الماس برودكشن» الصينى لتندثر صناعة يدوية كانت غاية فى الإبداع للفانوس الذى ترك لمن عاصروه حنينا لا يخفت. فانوس زمان كان يُضاء بشمعة، بكل ما تحمله لنا -بعد أن كبرنا- الشمعة من دلالات عميقة تلازم الضياء وقيم ومعان كالتنوير والوضوح والشفافية، كنا ننير الفانوس بشمعة صغيرة توضع داخله من باب يمثل أحد أضلاعه، حيث كان هيكله من صفيح، يتم تشكيله يدويا، كى يعشق فيه الزجاج الملون بألوان مختلفة فى كل ركن من أركانه الأربعة، هذه التحفة الفنية «الهاند ميد» بلغة السلع اليدوية مرتفعة الأسعار الآن كانت تخلق حالة علاقة حميمة مع الطفل صاحب الفانوس، لأنه يجب إشعال الشمعة ووضعها بعناية فى التجويف المخصص لتثبيتها بالداخل، كما كان يجب تنظيف هذا التجويف بعد ذوبان الشمعة، وكان يجب مراعاة إغلاق وفتح باب الفانوس بدقة، لأن ترباسه حساس يحتاج إلى توخى الحذر وعدم الإهمال. كان ذلك الفانوس الثرى فى صنعته الفقير فى سعره يزرع فينا -نظرا لطبيعة استخدامه- قيم الحرص والدقة والعناية بأشيائنا دون الحاجة إلى أى تلقين أو وصاية من الكبار، ووصل من عمق وصدق العلاقة بين الطفل وهذا الفانوس ذى التكوين الخلاق، أن كثيرين كانوا يحافظون على فوانيسهم بعد انتهاء شهر الصيام، واضعين إياها فى خزانة آمنة حتى العام التالى. لم يكن هذا الرمز الرمضانى الجميل، والذى ما زال، يستخدم حتى الآن فى الرسوم المتعلقة بهذا الشهر فى الصحافة ووسائل الإعلان المرئية على اختلافها صيحة عابرة، لأن ذلك الفانوس المنقرض كان كائنا حيا استمد كينونته من يد الصانع الذى بذل جهدا جهيدا فى صناعته، كى يضبط كل مجرى يبيت فيه الزجاج الملون، وذلك الصانع الذى يقوم بتقطيع الزجاج يدويا بالمقاسات المناسبة لأضلاع الفانوس، ومن قبل ذلك إجراء اللحامات التى لا تشوه الأركان والمناطق الانسيابية وتحافظ على صلابته ومتانته. كان الفانوس يستغرق فى صناعته الوقت الكافى كى يكون لائقا بمن صنعوه بإتقان لا يغيب عنه الحس الجمالى الفطرى، ولا يخلو من التنوع والتجديد ما بين قطعة وأخرى. ولأن التجار والباعة كانوا يعرفون قيمة ما بين أيديهم رغم سعره الذى لا يوفر هامش ربح كبيرا فقد كانوا يعتنون بالفانوس ويتفنون فى أسلوب عرضه، فكانت المحلات تعلق الفوانيس قبل بداية شهر رمضان بأسبوعين على الأقل فى صفوف على حبال مزينة بأعلام الوطن وأعلام أخرى ملونة بألوان فرحة تضفى على المكان البهجة والمتعة عند التسوق، وفى كل صف تعلق فيه الفوانيس كان العارضون، سواء كانوا تجارا فى محلات أو باعة جائلين، يبيعون على عربات يحرصون أن تكون الفوانيس فى كل صف ذات لون واحد من ألوان الفانوس الأربعة، أو أن يقسم الصف إلى لونين، على أن يكون هناك تبادل للألوان مع كل صفين. كان ذوق العارضين راقيا، يدرك أصحابه قيمة ما بين أيديهم من منتج ليس سلعة مستهلكة سريعا، كما هى العادة فى كثير من لعب الأطفال كالبمب والبالونات والأقنعة، وليست سلعة من لعب الأطفال المعمرة التى لا يقدر عليها زمان سوى الأثرياء، كان للفانوس وضع خاص وتميز ومكانة غير قابلة للمقارنة أو المضاهاة. عاش فانوس زمان حياة اجتماعية عريضة كانت زاخرة بمحبة أطفال تربطهم به حميمية لا تقف عند حدود إنارته وامتهانه بوضعه فوق رف فى أحد الأركان، وعندما تنطفئ شمعته يترك منسيا، إلى أن يتذكره أحد الصغار أو الكبار فيضيئه بشمعة جديدة إلى حين ليعود إلى ما كان عليه مهجورا مظلما فى ركن بارد لا يلتفت إليه أحد كما لو كان تحفة تعتاد عليها العين فتفقد مع الزمن انتباه أصحابها وانبهارهم حتى لو كانت نادرة، لكن فانوس ذلك الزمان أسبغ على رمضان بعدا اجتماعيا واحتفاليا، فانتزع مكانة رفيعة بما يلعبه فى نهاية يوم صيام، فبعد الإفطار عندما ترفع الموائد يتجمع الأطفال، الذين تجمعهم الجيرة، ويجلسون فى حلقة يمارسون طقس إشعال الشموع وإنارة فوانيسهم، ويحدث هذا فى الأحياء الفقيرة أو الغنية على السواء، كما يحدث فى القرى والنجوع، ثم يبدأ الأطفال بالمرور جماعات على بيوت الحى أو الشارع أو القرية، وهم يتغنون «حلو يا حلو رمضان كريم يا حلو»، بينما يحركون فوانيسهم حركة بندولية، فيمنحهم الكبار الحلوى والبلح والمكسرات، وفى نهاية اليوم يتحلق الأطفال مرة أخرى فى دائرة تتوسطها فوانيسهم تشع عليهم ضياء ممزوجا بالغبطة والسرور، ليبدؤوا توزيع حصيلة الليلة بالتساوى، سندهم فى هذا الطقس الصحو اجتماعيا ونفسيا فانوس رمضان فى زمان ولى.