من الذى يكتب التاريخ، وعلى ماذا يعتمد؟ هل على مذكرات القادة والساسة والزعماء، التى غالبا ما تكون نوعا من التمجيد فى ما أنجزوه من أعمال وأحداث سياسية وانتصارات من الممكن أن تكون وهمية؟ وأحيانا ما نجد بعض هؤلاء القادة يسردون الواقعة الواحدة فى أكثر من مناسبة، فى أزمنة ومراحل مختلفة، ولدينا الرئيس الأسبق أنور السادات الذى أصدر عددا من الكتب السياسية التى تناولت أحداثا شارك فيها منذ الأربعينيات، وكانت حكاياته تختلف من كتاب إلى آخر، كذلك الأستاذ الراحل فتحى رضوان الذى عاش أكثر من عهد منذ الملك فؤاد ففاروق فمحمد نجيب فعبد الناصر فالسادات فحسنى مبارك، وكانت حكاياته تختلف بعض الشىء، أو أنه يسقط بعض الشخصيات من حكاياته، ونتساءل: هل الوثائق التى تكشف عنها الدول بعد فوات الأوان تلعب دورا فى ذلك؟ أعتقد أن كل ذلك يسهم فى بناء التاريخ بشكل جيد لو توافرت الضمائر الحقيقية التى لا تكتب التاريخ من وجهات نظر سياسية، أو على الأقل يحاول المؤرخ أن ينجو بقدر الإمكان من آفة الانحياز السياسى عندما يكتب، والجدير بالذكر أنه كلما صدرت مذكرات لأحد القادة تثار حولها التساؤلات والتشكيك فيها لدرجة نسفها تماما، وهذا ما حدث عندما بدأت مؤسسة «أخبار اليوم» فى يونيو 1964 نشر مذكرات الزعيم الوطنى محمد فريد، بواسطة المؤرخ محمد صبيح، الذى كان قد كتب كتابا تحت عنوان «اليقظة»، ورأى أن الكتاب لن تكتمل فكرته إلا بتضمينه فصولا من مذكرات محمد فريد، وأوضح فى البداية أنه حصل على هذه المذكرات من دار الوثائق القومية، والتى ظلت حبيسة الدار لمدة خمسين عاما، وكان نشر الفصول مفزعا ومزعجا لكثير من الساسة والمؤرخين والكتاب، فقد كانت هناك مفاجآت من العيار الثقيل، إذ إنه من المعروف أن الزعيم محمد فريد تولى زعامة الحزب الوطنى، وقيادة الحركة الوطنية بعد رحيل الزعيم مصطفى كامل فى 10 فبراير 1908، وشيعته الأمة آنذاك فى جنازة شعبية مهولة لم تحدث من قبل فى تاريخ المصريين والعرب، ويعرف معظمنا أن مصطفى كامل كان زعيما مقلقا لوجود الإنجليز فى مصر، لذلك ثارت الشكوك حول رحيله، وكان المصريون متعلقين به تعلقا مذهلا، ربما لم يحدث لزعيم من قبل، فها هو الزعيم أحمد عرابى، وقد أهيلت عليه اتهامات عديدة، كان أشدها تجنيا أنه هو السبب الأساسى فى احتلال الإنجليز مصر، وكان مصطفى كامل هو أحد مروجى هذا الزعم، وكان يرى أن ثورة وتمرد عرابى على الخديو، هما اللذان سمحا للإنجليز بالتدخل ثم احتلال البلاد، والمدهش أن مذكرات فريد قد كالت وتضمنت حفنة اتهامات لمصطفى كامل نفسه، وقال محمد فريد إن مصطفى كامل كان يضارب فى البورصة، وكان محرر الجريدة يؤكد ما يقوله محمد فريد، لكنه يلتمس الأعذار لمصطفى كامل، على اعتبار أن مصطفى كامل ليس لديه أموال موروثة، وكان قبل ذلك يتلقى بعض التبرعات من بعض السراة والأغنياء، وكان يتلقى دعما ماديا من الخديو عباس، لذلك عندما اختلف مع الخديو عباس لمدة عامين، كان لا بد أن يبحث عن تمويل للحركة الوطنية ولجريدته «اللواء» من أجل الاستمرار، ولم تتضمن المذكرات اتهامات لمصطفى كامل فقط، بل للاقتصادى طلعت حرب، الذى رآه محمد فريد أنه تآمر على جريدة «اللواء» وحاول تصفيتها، لأن الجريدة كانت تهاجم الإنجليز، وطلعت حرب كان صديقا للإنجليز، وإنه رجل لا يفهم فى السياسة، لكنه لا يعرف إلا الأرقام، وكان أكثر المتهمين بخيانة الحزب ومبادئه عند محمد فريد هو على فهمى كامل، شقيق مصطفى كامل، الذى باع أوراق شقيقه الخاصة وأسراره للخديو، كذلك تحدث محمد فريد عن سعد زغلول بلهجة غير لائقة، وقال إنه فلاح فقير، ويعتبر من أدنياء الأصل، وكذلك كانت اتهامات عديدة لعبد العزيز جاويش وإسماعيل أباظة وأحمد شوقى الشاعر وغيرهم، وهنا ثار كثير من الكتاب وشهود المرحلة، وكان أولهم الكاتب الصحفى فكرى أباظة، ودافع عن مصطفى كامل، واستنكر حكاية مضاربات البورصة، كذلك دافع عن عمه إسماعيل أباظة، الذى اتهمه فريد بأن الخديو عباس كان يرسله خلف مصطفى كامل فى أوروبا ليرصد حركة الزعيم هناك، وفى 13 يونيو 1964جاء تعقيبان حادان، الأول من المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، الذى قال إن هذه المذكرات كاذبة وملفقة وغير صحيحة، وهو قرأ هذه المذكرات عام 1937، وظلت عنده ثلاث سنوات، ولم يرد فيها أى خبر عن مضاربات مصطفى كامل، وتهكم على صبيح قائلا: «اسألوا الجدع ده جاب كلام المضاربة فى البورصة، وطعن محمد فريد لمصطفى كامل منين.. هو ده إيه.. مؤرخ.. مؤرخ منين.. واحد اسمه محمد صبيح يدعى أنه اطلع على مذكرات محمد فريد.. أنا لا أعرف جاب الاختراع ده منين؟»، واستنكر المستشار عبد الخالق فريد، نجل الزعيم، نشر المذكرات دون الرجوع إليه، وأخذ الإذن منه، لكنه لم ينكر ورود الكلام عن المضاربة فى المذكرات، وفى نفس العدد كتب محمد التابعى مقالا هاجم فيه محمد فريد ومذكراته، وعزا هجوم فريد على الزعماء المصريين لأن أصوله تركية، لذلك فهو يتعالى على المصريين، واستمرت المعركة لعدة أسابيع بين نفى وتكذيب وتأكيد مما يدل على أن عملية كتابة التاريخ، لا بد أن تكون مكتوبة بحياد نزيه وعلمى، لأن كل هؤلاء قد تورطوا فى المشاركة فى أحداث الماضى والحاضر آنذاك.