** هو بالتأكيد جزء من نسيج الإنسان المصري.. يسكن تحت جلده، ويمارس طقوسه بتلقائية، وتكرار يثير الدهشة والاستغراب.. والحزن أيضًا! أتكلم عن حالة الاستغراق في الماضي، التي ربما تميز المصريين عن غيرهم من شعوب الأرض قاطبة.. فنحن على الدوام لا ننشغل إلا بما جرى بالأمس، ولا نعطي الأولوية إلا لما وقع لنا في الأيام الماضية، ولا نتقاتل ونختلف إلا على شيء يقبع في أبعد صفحات الذاكرة. في كل موقف في حياتنا اليومية.. تجدنا مشدودين بقوة إلى الفائت.. مهما كان حجمه، ومهما كانت قيمته، وهو في الغالب حجم وقيمة متدنية جدًا، لأنه على الأقل لن يفيدنا في معايشة الحاضر أو بناء المستقبل.. وهو على العكس تماما مما تمارسه العقلية المتفتحة، التي تبحث عن البناء والانشغال بما هو قادم، بديلا عن إضاعة الوقت في كلام لا يفيد، ولا يعني.. بل هو في حقيقة الأمر يمثل مضيعة للوقت، والجهد! النزوع إلى الماضي بين المصريين، هو في الواقع أسلوب حياة كامل.. يبدأ من أول اليوم، ويستمر حتى آخر لحظة من الليل.. وانظر إلى علاقة المرأة بزوجها، التي لا تخلو من التذكير الدائم عند الاختلاف بما فعله معها طوال سنوات عشرتهما معا.. وبمجرد وقوع خلاف عائلي عابر.. تخرج من ذاكرة كلا الطرفين، ما فعله كل طرف تجاه الثاني عبر سنوات وسنوات.. ولوقت في الغالب يطول دومًا تستدعي الذاكرة كل المواقف القديمة، التي أساء كل طرف فيها إلى الآخر.. ولو كان لطرف ثالث أن يتابع السجال السخيف، لاكتشف على الفور وهو غير صحيح دومًا أن الحياة بين الزوجين لم تكن إلا ملحمة من المعاناة، والمشقة، وسلسلة من المآسي والإساءات.. وأظن أن هذا لا يستقيم مع أي منطق، ولا يتفق مع أي عقل.. لأنه من المستحيل أن تمضي حياة أيًا كانت على وجه واحد.. وهو القرف بهذه الصورة، ولكنها الطبيعة المصرية! ولو بقينا في البيت، ولم نخرج منه بعد.. فسنجد أن شكلاً آخر من أشكال الارتباط المصري بالماضي ولا شيء غير الماضي، يحكم علاقة الأب، وربما الأم، بالأبناء في البيت.. ففي أي موقف.. وربما منها ما لا يستدعي التوقف كثيرا، أو حتى مجرد الالتفات إليها.. تنفتح أبواب التذكير بالخطأ، واجترار الماضي، مع وابل من التقريع، والاتهام لهذا الابن أو ذاك.. بأنه أخطأ في كذا وكذا، وأنه عاني لكي يستمر في دراسته، مع عدم إغفال التأكيد على فشله، وتقصيره، ولا مانع بالمرة من إذلاله، وتوبيخه، ليس لشيء يتعلق بأمر انتواه في المستقبل، ولكن لماض من المفترض أنه رحل، وتوارى بعيدا، وشبع نسيانا.. لكنها الطبيعة المصرية الفريدة، التي تقف قيدا أمام أي محاولة للتفكير فيما هو قادم!! تعالوا ننظر إلى ما يجري بين الناس في أماكن العمل.. لا فرق بين دواوين الحكومة، أو المؤسسات المختلفة، أو حتى الشركات الكبرى.. البشر هم في كل مكان والطبع واحد.. الجميع لا يتوقفون إلا عند الماضي.. ولا ينشغلون إلا بما فعله المدير، أو المسئول عن المكان.. فقد كان السبب في الحرمان من المكافأة أو الترقية، وهو دوما كان لا يجيد التعامل مع مرءوسيه، وهو السبب في تعطيل العمل، وفي تراجع الأداء.. وفي حدوث الخسائر، أما ما يخص مستقبل المكان.. فليس من الأولويات، ولا من الأمور التي تستحق الاهتمام!! في الرياضة.. وكرة القدم على وجه الخصوص.. الماضي حاضر دائما وبقوة.. فهذا الحكم، على حد رؤية نفر من مشجعي ناد بعينه، هو الذي لم يحتسب ضربة الجزاء ضد الفريق المنافس لناديهم، عندما كان يتولى إدارة مباراته مع فريق آخر قبل سنوات، بينما احتسبها ضد فريقهم عندما أدار مباراته، فعرضه للظلم، وكال بمكيالين، وتسبب في ظلم لناديهم من جانب، ومجاملة للمنافس من جانب آخر، وهذا المسئول هو الذي جامل الفريق الآخر، حين اتخذ قراره قبل وقت طويل، ولم يتخذ نفس القرار عندما تعلق الأمر بفريقهم.. هي نفس الفكرة التي تتعامل مع الحاضر بعقلية جاهزة دوما لاستعادة الماضي بأسرع من سرعة الصوت.. وطبيعي لا فائدة من الكلام عن المستقبل.. أو حتى الحاضر لأن الماضي جزء من هذه العقلية!! الأمثلة كثيرة جدا.. وهي موجودة في كل لحظة، وكل موقف من حياتنا.. وتكاد تكون للماضي الكلمة الأولي على الدوام.. وتأملوا معي ما يحدث عندما يبدأ التفكير في الاحتفال بمناسبة من المناسبات السعيدة في حياتنا، وهو الذي من المفترض أن يمثل استثناء في مثل هذه العادة المتخلفة، ولكن هيهات.. فنحن عندما تتاح لنا فرصة لنعيش "لحظة الحاضر"، نجد أنفسنا نذهب فورا إلى الماضي.. وعندها لا يكون مستغربا بالمرة أن يكون القرار بالاحتفال، هو الذهاب لزيارة المقابر.. منتهي العجب طبعا!! ما أريد أن أوضحه هنا.. هو أن هذه العادة المصرية المتأصلة فينا، هي نقطة فاصلة في علاقتنا بالمستقبل.. والمستقبل الذي أعنيه، هو السعي لغد أفضل، والبحث عن وطن مختلف في كل شيء.. في الرياضة، والصحة، والتعليم، والسياسة، والاقتصاد، والعلم، وفي العلاقات الاجتماعية أيضا.. فمن غير المعقول أن ينشد شعب الرغبة في العبور إلى المستقبل، بكل ما فيه من تقدم، حياة ورفاهية، وحرية، معيشة أفضل.. بينما كل سلوك، وكل تصرف، وكل فكرة مشدودة دائما إلى الماضي لا تنفصل عنه، ولا تتركه يحلق في الأفق الأرحب.. وربما أن الخطأ الذي نمارسه كل يوم عشرات المرات منذ أسابيع وشهور.. هو الحديث عن الماضي، ولا شيء غير الماضي.. لا أحد مهموم بالمستقبل، مع أن اللحظات التاريخية التي نعيشها منذ الخامس والعشرين من يناير.. كانت تفرض علينا التحول إلى النظر للمستقبل بأقصى سرعة، وبأكبر جهد ممكن.. فهذه هي الشعوب التي لا تريد أن تتوقف طويلا أمام الماضي الذي أضاع وقتها، وبدد مجهودها.. وأن تري أن القادم هو الأهم، وهو الأجدى بالاهتمام.. ولكن عندما لا يكون هناك أدني تقدير لقيمة الوقت، طال أو قصر.. يبقي التوقف عند الماضي.. هو الاختيار الطبيعي! كان من الممكن لو كنا حقا نريد أن ننظر إلى الماضي كما نريد.. نحاكمه، ونقتص منه، ونكشف أخطاءه، ونحاسب المخطئ فيه، ونستعيد حقنا كاملا، وفي ذات الوقت، وبنفس القوة والعزيمة.. نعطي للغد ما يستحق.. وما يفرضه علينا المنطق الطبيعي للأشياء.. ولكن لمن تقول؟ ولمن تشرح؟! أخيرا.. التوقف أمام الماضي، والانشغال به كل الوقت.. يناسبنا تماما.. لأن الماضي لا يحتاج إلا للكلام.. بينما المستقبل يتطلب العمل.. وفي هذه الجزئية وجب التأكيد على أننا نعشق العمل ونتفانى فيه.. بدليل عشقنا القاتل للماضي.. لك الله يا مصر.