نعم، بمقدور مصر أن تخلع الرئيس مبارك وحكمه غير الشرعي بضربة عصيان مدني، ليس هذا خيالا ولا حلم يقظة، بل هو الممكن، والممكن جدا، وربما لا يوجد خيار آخر سلمي للتغيير، اللهم إلا إذا شاءت الأقدار، وعجلت بما تحب الأنفس، وهو ما يرد في علم الله ويتأبي عن علم الناس، ربما كان التغيير السلمي واردا ولو نظريا بانتخابات حرة، وتلك هي العنقاء والخل الوفي، هذا بالذات هو غير الممكن وبإطلاق مادامت عائلة مبارك تحكم من قصر الرئاسة، إذن فالعصيان المدني السلمي ليس اختيارا بين بدائل، إنه الاختيار الوحيد للمصريين إن أرادوا أن يكونوا بشرا كالبشر، لا أن يظلوا بشرا كالحجر، وعجينة مدهوسة تحت أقدام القهر، وقد أفهم أن تستبد بنا مشاعر الإحباط أحيانا، لكن لا يصح أن يدركنا اليأس من روح الله ومن روح الشعب، فمصر لا تحتاج إلي معجزة لكي تعصي الوالي الظالم، مصر تحتاج فقط أن تستعيد نفسها، وأن تدرك هوان شأنها بين الأمم، لا نتحدث هنا عن أمم سبقتها في مدارج الترقي، بل نتحدث عن بشر مثلنا تماما، ومن ديننا ومن وجعنا ومن أمتنا، نتحدث عن شعب لبنان الذي يصغر الشعب المصري في الحجم بعشرين مرة، ويقدم لنا مع ذلك درسا باهرا في العصيان السلمي المليوني الأسطوري المذهل، قد يقال إن لبنان مختلف، قد يقال إن الحريات العامة في لبنان تاريخها طويل، وإن في لبنان خصوبة سياسية طافرة بدعوي التنوع، وهذا كله صحيح، لكن مصر قد لا تعدم خصوبة من نوع آخر، خصوبة المخاض الطويل، خصوبة القلق علي بلد تداعت موازينه، خصوبة التناقض الاجتماعي قبل التناقض السياسي، خصوبة الألم الذي لا يحتمل، وما صحوة عمال المحلة ببعيدة، ففي الوقت الذي يأكلنا فيه غيظنا من العجز، تفجرت انتفاضة عمال المحلة، ووجدنا العمال بعشرات الآلاف يكسرون عصا الطاعة العمياء ويعتصمون ويتظاهرون دفاعا عن حقهم في الحياة، وتستمر الانتفاضة أياما طويلة عاصفة رغم وطأة الخوف الموروث أجيالا عددا، ويلتحم الجزئي بالكلي في سلاسة تلقائية مدهشة ويصبح النعش الرمزي لرئيس مجلس إدارة شركة المحلة هو ذاته النعش الرمزي لرئيس مجلس إدارة مصر كلها، فهم بالرمز لا يريدون فقط إقالة رئيس مجلس إدارة شركة هو عبد المأمور، بل الرمز ممتد بإحالاته إلي إقالة المأمور نفسه، إنها الصدوع الاجتماعية العميقة التي تفتتح عصرا جديدا للسياسة في مصر، فقبل عامين كانت حركة كفاية تخترق حاجز الخوف بمظاهرات المئات، وزادت المظاهرات السياسية إلي الآلاف مع تمرد القضاة، وكانت تلك كلها أشبه بدقات متصلة بإلحاحها علي أبواب الآتي الذي يدهمنا الآن، إنه مدد الشعب الذي يفيض في مواسم النيل، فانتفاضة عمال المحلة لن تكون الأخيرة، إنها سورة الفاتحة في قرآن الغضب المصري، ولا تصدقوا الرجال الذين ملأتهم الشروخ، فمصر تخطو الآن إلي أقدارها، وتثبت أنها قادرة علي العصيان.