(1) إذا أردنا أن نحدِّد تاريخًا إجرائيًا يمكن الانطلاق منه فى بحث موضوع «مصر» و«المصرية» أو الحديث عن «وطن» بين أوطان، فإننا يمكن أن نعود إلى كتابات رفاعة الطهطاوى فى منتصف القرن التاسع عشر، حينما تحدث عن «حب الأوطان وشرف الانتماء إليها»، وكان أول من التفت إلى التاريخ المصرى القديم فى العصر الحديث. لكننا، ومنذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولًا إلى تأسيس حزب الأمة عام 1908، يمكننا القول إنه خلال تلك الفترة بدأ تشكُّل وتراكم الفكر النظرى والإسهام الثقافى والمعرفى حول موضوع «مصر والمصريين»، ثم خلال الفترة من 1908 حتى 1970 تراكم إرث نظرى هائل من الكتب والمؤلفات والمقالات حول موضوع الهوية المصرية والوطنية والقومية.. إلخ؛ كأنها ليالى التاريخ المصرى الطويل والعميق والممتد! أدلى الرواد الأول بدلوهم، ومهّدوا الطريق لتلاميذهم من الرعيل الأول والثانى من المثقفين وخريجى الجامعة المصرية فى فترتها الذهبية (1923-1952)، فقدَّم المؤرخون خلاصة أبحاثهم، وشاركهم مؤرخو الأدب والنقاد وعلماء النفس والفلسفة، والاجتماع والاقتصاد، ثم علماء السياسة والجغرافيا.. إلخ. لدينا قدر وافر وثمين ومذهل من الكتابات والمؤلفات التى دارت حول مسألة «الهوية» والانتماء الوطنى (أو القومى)، وبحث الجذور التاريخية واللغوية والعرقية، ومكونات «الهوية» وعناصرها اللغوية والدينية، والمشترك الثقافى والأنثروبولوجى.. إلخ. لكن، ومنذ منتصف القرن العشرين، أدرك بعض المثقفين أن بحث القضية وتناولها قد اختلف كليًا وجذريًا، بسبب الأزمات التى عاناها سكان كوكب الأرض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) وحتى هزيمة الخامس من يونيو 1967، ولاحقًا بعد انتصار أكتوبر العظيم فى 1973. (2) أدرك مثقفون مصريون ومفكرون كبار أن هذه الأزمة (أزمة الاضطراب والبحث عن الذات وسط هذا العالم المختل) لا تخصّنا وحدنا؛ فما جرى فى العالم خلال النصف الثانى من القرن العشرين يشبه زلزالًا كبيرًا تنوء بحمله الكرة الأرضية كلها. يُوصِّفُه المفكر والناقد الراحل غالى شكرى بقوله: «هناك حالة سيولة جغرافية وتاريخية وفكرية تجتاح عالمنا الراهن بأعاصير اقتصادية وسياسية وعرقية وتكنولوجية عاتية. وأصبح العالم من جراء هذه الأعاصير قرية واحدة كبيرة حقًّا، ومجموعات متناثرة معزولة عن بعضها كالجزر المهجورة فى الوقت نفسه. تناقض مروِّع بين عالمية العالم، وبين الجدران الشاهقة الملوَّثة بالدم بين الدويلات العرقية والطائفية المفاجئة على خريطة الدنيا فى وقتٍ واحد. هذه السيولة الكونية تطرح سؤال الهُوية على قطاعاتٍ واسعة من سكان العصر الجديد الذى يوشك بالمخاض الذى نشهده على ولادة عالم جديد كليًّا، تتغير فيه مفاهيم الوطنية والقومية والإنسانية تغيُّرات جذرية». الغريب أن غالى شكرى كتب هذه الأسطر المذهلة قبل رحيله مباشرة (توفى عام 1995)، ورغم مرور ثلاثين سنة على هذا التوصيف فمن المدهش والمذهل أنه ينطبق تمامًا على ما نعيشه الآن! رحل غالى شكرى قبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، وقبل انفجارات العالم المدوِّية اقتصاديًا وسياسيًا وعولميًا، والأهم والأخطر «معلوماتيًا»؛ لم تكن استخدامات الشبكة العنكبوتية قد عمّت العالم، ولم تكن شبكات التواصل الاجتماعى قد هيمنت على العالم، لكن ما تنبأ به غالى شكرى لحظة رحيله تحقق بحذافيره، وصرنا نحن شاهدين على ولادة عالم جديد كليًا تتغير فيه مفاهيم «الوطنية» و«القومية» و«الإنسانية» تغيّرات جذرية! (3) يمكن القول إنه بصدور كتاب صبحى وحيدة «فى أصول المسألة المصرية» عام 1950، قد بدأ لون جديد وعميق من التفكير والبحث فى تحليل وكشف مكونات الهوية المصرية. صحيح أن هناك كتابات مهمة جدًا أثارت وما زالت تثير النقاش والجدل (مثل كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى صدر عام 1938 عقب توقيع معاهدة 1936، ومثل مقدمة عباس العقاد المهمة عن طبيعة الأمة المصرية التى صدر بها كتابه الضخم عن الزعيم الراحل سعد زغلول، وغير ذلك من كتابات تدخل فى هذه الدائرة أو تتصل بها أو تتقاطع معها)؛ لكن كتاب صبحى وحيدة «فى أصول المسألة المصرية» شكَّل نقطة فارقة بين ما سبقه من كتابات وما تلاه من كتب ومؤلفات عالجت الموضوع ذاته من مداخل مختلفة ومناظير متعددة ومتنوعة! يقدّم لنا عالم الاجتماع الراحل السيد ياسين إشارات دالّة ومهمة جدًا على نوعية هذه الكتابات التى ظهرت بعد كتاب صبحى وحيدة.. ويمكن القول (وفقًا للسيد ياسين) إن بحث موضوع «الهوية المصرية» ومكوناتها وسياق بحثها التاريخى والجغرافى والاجتماعى والاقتصادى.. قد شغل عددًا من كبار المثقفين والمفكرين المصريين من كل التخصصات، ومن أصحاب النظر والفكر، سواء كانوا أكاديميين (أعضاء هيئة التدريس بالجامعة) أو غير أكاديميين من خارجها، وإن كانوا أصحاب إسهامات ممتازة لا تقل قيمتها أو جدارتها عن غيرها. من أبرز هذه الأسماء: الدكتور حسين مؤنس الذى ألّف كتابه «مصر ورسالتها» عام 1956، وأحمد بهاء الدين فى كتابه الرائع «أيام لها تاريخ» (سبتمبر 1959)، ومن بعده خرج الدكتور حسين فوزى بكتابه الأشهر «سندباد مصرى - جولات فى رحاب التاريخ» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1962. (وللحديث بقية)