الملاحظة التى لا تخطئها عين أى مواطن، سواء كان ماشيا فى الشارع على قدميه، أو راكبًا وسيلة مواصلات عامة أو خاصة، أن ظاهرة الدراجات النارية التى تنطلق فى شوارع مصر، وخاصة القاهرة، قد أصبحت فى تزايد مستمر خلال السنوات القليلة الماضية، ومن وقت لآخر نشاهد أيضًا حوادث كثيرة لهذه الدراجات نتيجة السرعة الجنونية واختراقاتها بين المارة والسيارات بالتواءات وتهور، سواء نتيجة اصطدامها بسيارة أخرى، أو حتى بمواطنين يعبرون الطريق نفسه. لم أطلع على أى إحصاءات دقيقة حول أعداد هذه الدراجات النارية المُرخَّصة، ونِسَب زيادتها على مدى السنوات القليلة الماضية، ولا نسب الحوادث فى كل عام التى تكون هذه الدراجات جزءًا منها. وبالتأكيد فإن هذه الإحصاءات قد تكون لدى الأجهزة المعنية، سواء إدارات المرور أو أقسام الشرطة، وبالتالى أتوقع أن تكون محل دراسة أدق منها. وما أتناوله هو تقدير من خلال المشاهدات فى الشارع المصرى، وأعتقد أن هذه الملاحظات قد يتفق معها الكثيرون؛ فقد أصبحت بالفعل ظاهرة كثرة الدراجات النارية المنطلقة بتهور فى تزايد، ونراها جميعًا فى القاهرة الكبرى وفى كل مكان، سواء فى الأحياء الشعبية أو الضواحى الراقية، وحتى فى المدن الجديدة كالشيخ زايد والسادس من أكتوبر ومدينتى. ويمكن تصنيف مستعملى هذه الدراجات إلى الفئات التالية: الفئة الأولى: وهم مجموعة من الشباب الذين يستعملونها كهواية، وهم عادة من ذوى الوضع المالى المرتفع. وهؤلاء لديهم نوعيات وموديلات من الموتوسيكلات مرتفعة الثمن، وتجدهم عادة وقد ارتدوا ملابس جلدية لحماية أجسادهم وخوذات لحماية الرأس، وقد يكونون غالبًا فى جماعات ويسافرون معًا، وقد تصادفهم على الطريق الصحراوى أو الدائرى فى أوقات مبكرة. وهناك فئة أخرى انتشرت خاصة فى الإسكندرية من الفتيات اللائى قررن أن يذهبن إلى جامعاتهن وأعمالهن بنوع صغير من هذه الدراجات المسمى (الفيزبا)، وهن - بحكم الطبيعة - يقدن بحذر، والغالبية منهن يلتزمن بإشارات المرور وبالقيادة الهادئة، ويرتدين خوذات حماية الرأس. وربما فضَّلن هذه الوسيلة باعتبارها أرخص من تكلفة سيارة، ولكى لا يتعرضن للمضايقات فى وسائل النقل العامة الأخرى، وربما كذلك توفيرًا للوقت. الفئة الثانية: هى من يكاد ينفطر قلبك تعاطفًا وخوفًا عليها، حينما ترى أسرة كاملة: الزوج، وأمامه ابنه الصغير على الموتوسيكل، ثم خلفه زوجته التى قد تكون هى أيضًا تحمل طفلًا رضيعًا أو صغيرًا أو حاجياتها، وجميعهم على دراجة بخارية واحدة ولا يرتدون أى خوذات لحماية الرأس عند حدوث أى طارئ - لا قدر الله. وقد نشاهدهم فى عز الحر وشمسه الحارقة أو تحت الأمطار والشوارع الغارقة فى المياه المختلطة بالطين، وقد ترى أبًا ومعه أبناؤه الذين يذهب بهم إلى مدارسهم صباحًا أو عائدًا بهم إلى منزلهم عصرًا. وهؤلاء ينتمون عادة للشرائح العليا من الطبقات الفقيرة أو الشعبية، أو من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى التى أصبحت لا تقدر حتى على شراء سيارة قديمة مستعملة فضلًا عن تحمل نفقاتها، كما لا تتحمل حتى تكاليف المواصلات العامة مثل الأوتوبيس أو (الميكروباص) ذهابًا وإيابًا يوميًا لأسرة من أربعة أفراد. كما وفرت لهم هذه الوسيلة القدرة على اختراق الشوارع الضيقة جدًا فى الأحياء الشعبية والعشوائية التى لا تدخلها سيارة وربما لا يدخلها حتى توكتوك. ورغم أن رب الأسرة فى هذه الحالة - بحكم مسئوليته عن أسرته - يكون عادة حذرًا فى القيادة، إلا أنه يظل معرضًا للخطر هو وأسرته نتيجة لأى طارئ، مع عدم ارتداء أى وسائل حماية ضد الحوادث مثل خوذات الرأس على الأقل له ولأطفاله. أما الفئة الثالثة: والأكثر خطرًا وانتشارًا فهى فئة هؤلاء الشباب الذين يضعون صندوقًا خلفهم فيه طلبات بعض المواطنين من السلع والطعام وغيره، وينطلقون بأقصى سرعة وبتهور بين السيارات وحتى بين المواطنين العابرين للطريق، لأن عليهم توصيل هذه الطلبات بسرعة لكى يعودوا ويأخذوا طلبية جديدة. • • • فى الواقع فإن انتشار ظاهرة توصيل الطلبات من خلال تطبيقات على التليفونات المحمولة، أو من خلال الخط الساخن لهذه السلاسل التجارية والمطاعم وغيرها، هو من طبيعة العصر وتطوراته المحمودة؛ فقد وفرت هذه الخدمات وقتًا ثمينًا للمواطن بدلًا من الذهاب بنفسه لشراء سلعة ما يحتاجها أيّا كانت، فقد أمكنه أن يتسلمها فى وقت قياسى وتوفر عليه مشقة الذهاب والعودة. ومن ناحية ثانية وفَّر هذا الأسلوب على التاجر وصاحب العمل مصاريف إضافية للبيع من معرض يرتاده المواطنون، بما يعنيه ذلك من تكاليف عمالة وصيانة وإيجارات، وأصبح لديه فقط مخزن لتلقى الطلبات وإرسالها من خلال هؤلاء الشباب. ومن ناحية أكثر أهمية فقد فتحت هذه الوسيلة فرصًا للعمل للآلاف من الشباب العاطل عن العمل، وبعضهم حاصل على شهادات متوسطة بل وجامعية أيضًا. ولكن المشكلة تكمن فى تهورهم فى القيادة وبسرعات كبيرة بين السيارات؛ فقد يأتيك أحدهم عن يمينك والثانى عن يسارك وآخرون من الخلف والأمام، وجميعهم يكررون استخدام آلات التنبيه بإزعاج وإرباك شديدين. ومن اللافت أن المحلات التجارية التى تعلن عن حاجتها للتعاقد مع هؤلاء الشباب تقول إنها فى حاجة لتعيين «طيّارين!!» لأنها تتوقع منه أن يطير بالموتوسيكل لتوصيل الطلبات. وهؤلاء لذلك هم الأكثر عرضة للحوادث المتكررة، كما أنهم لا يرتدون أى خوذات لحماية الرأس. وسألت أكثر من شاب منهم عن أوضاعهم، فتبين أن الكثيرين يحصلون على مرتبات أو عمولات زهيدة عن كل طلبية، ولا يحصلون حتى على المبلغ الوارد فى الإيصال كخدمة توصيل، ويعتمد معظمهم على ما يجود به متلقو الطلبات من إكراميات، وليس لدى الكثيرين منهم تأمين صحى ضد الحوادث. • • • لذلك فإن هذه الفوضى التى خلفتها هذه الظاهرة قد تحتاج أولًا إلى حماية هؤلاء الشباب ضد الحوادث التى قد يتعرضون لها، كما قد نحتاج إلى تطبيق القانون، خاصة قانون المرور، على هذه النوعية من الدراجات بكل حزم، من حيث أهمية الالتزام بقواعد المرور، وألا يعرض نفسه والغير للخطر، وعدم تجاوز السرعات المقررة ولا استعمال آلات التنبيه بشكل مزعج وفى غير ضرورة، والتأكد من حملهم رخص قيادة. ومن المهم كذلك أن تفرض القوانين على صاحب العمل أن يؤمِّن عليهم صحيًا ضد الحوادث على الطريق أثناء تأدية عمله. وقد تكون هناك مواد فى قانون العمل من المهم تفعيلها بحزم على الشركات التى يعملون لديها فى هذا الشأن. كما قد يكون من المهم لحماية جميع الفئات التى تستخدم الموتوسيكلات - وخاصة شباب توصيل الطلبات - أن تفرض تعليمات السير والمرور ارتداء خوذات حماية الرأس على الأقل، وتوفرها لهم الشركات المشغلة، وأن تُوقع الغرامات المناسبة على من لا يلتزمون بذلك حمايةً لهم وللمجتمع. مساعد وزير الخارجية الأسبق وسفير مصر السابق لدى باكستان