لقاؤنا اليوم فى الحلقة الثانية من عرضنا المستفيض لكتاب «مصر والجغرافيا» الذى ألفه الإيطالى فريدريك بونولا فى نهاية القرن 19. نمضى مع الكتاب فنقرأ ما يقوله بونولا من أنه فى سبيل اكتشاف ثروات النيل أسس المصريون فى 1823 «الخرطوم»، لتكون عاصمة للسودان عند التقاء النيلين الأزرق والأبيض، بعد أن كانت المدينة مجموعة أكواخ صغيرة قرب جبانة تاريخية. تأسيس الخرطوم كان الهدف منه أن تكون «نقطة ارتكاز للانطلاق إلى النيل الأزرق خاصة فى سنار وفازوغلى بعد أن أضرت المواقع العسكرية فى سنار بصحة العساكر ففشت فيهم الدوسنتاريا وفتكت بهم. فى نهاية عام 1839 ومطلع عام 1840 سافر محمد على بنفسه إلى السودان للإشراف على استخراج الذهب فوصل دنقلة ومنها توجه إلى الخرطوم ونادى بإلغاء الاسترقاق ثم وصل إلى فازوغلى، وهناك أقام مركزًا مصريًا ليكون بداية لاستكشاف المنطقة وتمويل الدولة بالمعادن سيما الذهب، واتخذ من المنطقة موضعًا لتأسيس مدينة جديدة حملت اسم «مُحمدُ بولس Mohamedapolis أى مدينة محمد على». فشل المنقبون فى العثور على الذهب وطار عقل محمد على فى مقر مدينته الوليدة فصب جام غضبه على الخبراء الأوروبيين المرافقين له وعلى المصريين من حوله بالطبع وأنزل على الجميع لعناته واضطر للعودة إلى القاهرة فى حالة سيئة فى رحلة طويلة شاقة فى سنوات عمره الأخيرة (كان قد بلغ من العمر آنذاك 71 عامًا). سرعان ما نُسى اسم المدينة الوليدة ولم يعد يحتل مكانًا على الخريطة. ورغم عودة محمد على فإن الحملة واصلت فبلغت فى الجنوب حدودًا جديدة شارفت فى 1841 على منابع نهر السوباط على مقربة من دائرة العرض 5 شمالًا. وطبعًا رسمت خرائط مهمة ستعتمد عليها الكشوف الأوروبية لاحقًا.
طموحات مصرية فى المديرية الاستوائية بعد وفاة محمد على وابنه إبراهيم باشا لم يقدم الخديو عباس خلال الفترة القصيرة التى حكم فيها (1848 - 1854) اهتمامًا بنهر النيل. لكن فى المقابل شهدت الفترة التالية لحكم الخديو سعيد (1854 إلى سنة 1863) عودة الاهتمام بالسودان وحوض النيل فسعى إلى تقليد محمد على فسافر بنفسه إلى الخرطوم فى 1857 وأقام مركزا على نهر السوباط فى أقصى الجنوب للإشراف على منع تجارة الرقيق. كما سمح للمستكشفين الألمان بالسفر إلى شرق السودان، وإلى كردفان ومنها جنوبا إلى بحر الغزال ومنابع نهر النيل الاستوائية انطلاقًا من جنوب السودان والتى توجت بالرحلة المشتركة لكل من جون سبيك John Speke وجيمس جرانت James Grant اللذين سافرا من زنجبار Zanzibar فى 28 يوليو سنة 1862 فوصلت رحلتيهما إلى شلالات «ريبون Ripon» على نهر النيل وهو يخرج من بحيرة فكتوريا. يمكن القول إن عصر إسماعيل (1863-1879) هو عصر الاهتمام بحوض النيل وتخومه الجيوسياسية بالمعنى الكامل للكلمة. فبعد أن عقد إسماعيل تفاهمات مع الدولة العثمانية فى 1870 على بسط سيادة مصر على كل من مصوع فى إريتريا وإقليم طوكر Tokar وسواكن فى شرق السودان كلف فى ذات الوقت السير صمويل بيكر Samuel Baker بحملة عظيمة لمنابع النيل الاستوائية. أنفقت الخزينة المصرية على حملة صمويل بيكر عشرين مليونًا من الفرنكات وكان ابتداؤها فى 8 فبراير سنة 1870 وانتهاؤها فى شهر أغسطس سنة 1874. وعند ملتقى نهر السوباط أسس بيكر محطة لمنع تجارة الرقيق دعاها ب«التوفيقية» (نسبة إلى أكبر أبناء الخديو إسماعيل، والذى سيصبح خديو مصر لاحقا فى 1879). سافر بيكر حتى وصل فى 21 إبريل سنة 1871 إلى جندكرو Gondokro وفى 26 مايو أعلن رسميًا بأن البلاد المحيطة بها قد دخلت فى حوزة مصر وأعاد تسمية جندكرو، لتصبح الإسماعيلية تيمنا باسم الخديو. ولأن ما قام به بيكر إنما حقق لمصر إنجازا ملموسا لكنه لا يزيد عن السيادة الظاهرية الاسمية فى المنطقة الاستوائية فقد عزم الخديو إسماعيل على ترجمة هذه السيادة على الأرض فبدأت مرحلة جديدة من الاهتمام المصرى بمنابع النيل الاستوائية لكن الاحتلال الإنجليزى لمصر فى 1882 إثر الثورة العرابية أطلق يد إنجلترا فى السودان ومنابع النيل وضاعت كل جهود مصر خلال ثلاثة أرباع القرن الماضى على نحو ما يذهب مؤلف الكتاب فى وضع تهمة تلك الخسارة فى عنق الثورة العرابية.
كتيبة من العلماء لم يكن الاهتمام المصرى بمنابع النيل يحقق غايته إلا بالاعتماد على ثلة متنوعة من خبراء الأرض من جغرافيين وجيولوجيين وعلماء نبات ومسح أرضى ورصد فلكى. الحقيقة أنه منذ صعود محمد على إلى سدة الحكم فى مصر فى مطلع القرن 19 تضاعفت حركة الكشوف الجغرافية المصرية والفتوحات العسكرية. وقد اعتمد هذا الزخم الجغرافى والكشفى والعسكرى على نوعين من العقول المدبرة: - النوع الأول مثلته الرموز البارزة فى الأسرة العلوية ممن قادوا الحملات بأنفسهم، وشملت فى النصف الأول من القرن 19 محمد على باشا بنفسه فضلًا عن أبنائه، وفى مقدمتهم طوسون وإبراهيم وإسماعيل إلى جانب «محمد بك الدفتردار» صهر محمد على. كما اعتمدت مصر فى النصف الثانى من ذلك القرن على ضباط مصريين كان من المفترض أن تخلد أعمالهم، وتلمع أسماؤهم لو كانت طريقة التوثيق الوطنى والأرشفة تتم بنفس آلية التوثيق الأجنبى. لكن من أسفٍ أن هذا النوع من الرواد المصريين لا يرد ذكره إلا فى حالات استثنائية. - وكان النوع الثانى من الخبراء الأجانب الذين كانت الحملة الفرنسية (1798-1801) ولاحقًا حملة فريزر (1807) والتى كانت بدورها جزءًا من الحرب التركية الإنجليزية (1807-1809) قد فتحت أعين «محمد على» وحلفائه على هؤلاء الخبراء من عسكريين ومساحين وبحارة ومستكشفين وعلماء آثار، وعرف هو وخلفاؤه من بعده أهمية الاستعانة بهم فى ظل ضعف التأهيل العلمى للخبرات المصرية فى أعقاب الحكم المملوكى. وكان لهؤلاء الخبراء الأجانب الأغلبية العظمى من الشهرة وطباعة الأعمال ونشرها فى مصر وخارجها، وكانت تتكرر أسماؤهم أضعاف ما تتكرر الأسماء المصرية. ولدينا إضافة إلى النوعين السابقين حالات نادرة كنا نجد فيها مهام كشفية وحملات مختلطة ضمت مزيجًا من الرواد المصريين والأجانب، ولعل هذا النوع كان أكثر الأنواع فائدة لتبادل الخبرات رغم ندرته. وبوسعنا إحصاء ما يقرب من مئة اسم من أولئك الرحالة والمستكشفين والجغرافيين وخبراء الرى ممن التفوا حول محمد على باشا وخلفائه من بعده. وجدير بالذكر أن هؤلاء ليسوا بالضرورة كما يشاع جاءوا من أصل فرنسى تماشيًا مع التحالف التركى الفرنسى بل شمل ذلك الإيطاليين والإنجليز والألمان بل وبعضا من الروس وبعضًا من الأمريكيين. سنرى فى هذا الكتاب أن محمد على استعان بعديد من الخبراء من مختلف الجنسيات، أبرزهم من فرنسا: لينان دو بلفون Linant de Bellefonds، سيف Sève (سليمان باشا الفرنساوى)، فردريك كايو Caillaud، إرنست نجل لينان دو بلفونErnest Bellefonds، جومارJomard، شديفو، Chedufeau، دارنو، D'arnaud، لوڤيڤر Le Fevre، مارى Mari، براكس Prax، لامبير Lambert، شامبليونChampollion. ومن إيطاليا: بلزونى Belzony، كازامورا Casamural, فرديانى Frediani، ريتشى Ricci، فورنى Forni، بروكى Brocchi، دروڨيتى Drovetti، سيجاتوsrgato، روزولينى Rosellini. ومن النمساويين بريانى Boreani، و بروكش-أوستن Prokesh-Osten. ومن الإنجليز واجرن Waghorn وبرتن Burton. ومن الألمان ربل Ruppel. ومن الروس كواليسكى Kowalesky. أكثر من 45 % من هذا العدد كان يقوم برحلات استكشافية فى الجغرافيا الإقليمية والأنثروبولوجيا ووصف الأقاليم chorography وانخرط نحو 30 % منهم فى أعمال التعدين وجاءت النسبة الباقية للمهتمين بالآثار وخبراء الفلك والمساحة والرى وخبراء التدريب العسكرى. فى المقال القادم نختتم رحلتنا مع هذا الكتاب المهم عن جهود مصر فى علم الجغرافيا بأبعادها العملية والنظرية.