لم يشهد العالم سباق تسلّح كالذى يعيشه اليوم، سباق يعلو فوق الخرائط ويجتاح الحدود، كأن البشرية تعود إلى مرحلة ما قبل الانفجار الكبير؛ لحظة يتراجع فيها صوت الدبلوماسية أمام ضجيج المصانع، ويصبح الخوف محرّكًا اقتصاديًا لا يقل قوة عن النفط والغاز. ومع صدور بيانات معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام «سيبرى» حول عام 2024، اتضح أن العالم لا يكتفى بالاستعداد للحرب، بل يبنى اقتصادًا قائمًا على احتمال اندلاعها فى كل لحظة. فإيرادات أكبر 100 شركة سلاح فى العالم بلغت 679 مليار دولار، وهو رقم قياسى لم يُسجل منذ بدأ «سيبرى» جمع البيانات قبل عقود. الحرب فى أوكرانيا، والدمار فى غزة، والتهديدات الممتدة من بحر الصين الجنوبى إلى الشرق الأوسط، خلقت طلبًا جنونيًا على السلاح؛ لم يعد مجرد استجابة لحظية بل تحول إلى بنية اقتصادية عالمية تزداد ترسخًا عامًا بعد آخر. • • • الولاياتالمتحدة، كالعادة، تتصدر هذا المشهد؛ فشركاتها ال39 حصدت 334 مليار دولار، فيما عززت شركات عريقة، مثل «لوكهيد مارتن» و«نورثروب جرومان» مواقعها، ودخلت «سبيس إكس» القائمة لأول مرة بعد أن تضاعفت إيراداتها العسكرية. ومع ذلك، فإن مفارقة القوة الأمريكية تظهر فى أن برامجها الكبرى- من «إف-35» إلى الغواصة النووية «كولومبيا» - تتعثر تحت وطأة تأخيرات هائلة وتجاوزات مالية تجعل التخطيط العسكرى الأمريكى نفسه أمام علامة استفهام ضخمة. أوروبا، التى وجدت نفسها منذ 2022 أمام تهديد مباشر بعد الغزو الروسى لأوكرانيا، أعادت فتح مصانع سلاح كانت شبه نائمة، وإيرادات شركاتها ارتفعت 13% أى إلى 151 مليار دولار، وقفزت شركات ألمانية وتشيكية قفزات أشبه بما يحدث فى اقتصاد الحرب؛ فشركة «Czechoslovak Group» وحدها صارت عنوانًا لمرحلة كاملة بعد أن سجلت زيادة مذهلة بلغت 193% نتيجة تزويد أوكرانيا بالذخائر. ولكن خلف هذا الصعود تلوح أزمة أكبر: اعتماد أوروبا على معادن ومواد استراتيجية كانت تستورد نصفها تقريبًا من روسيا قبل الحرب؛ شركات مثل «إيرباص» و«سافران» اضطرت لإعادة بناء سلاسل توريد معقدة ومكلفة، فيما تحذّر «تاليس» و«راينميتال» من أن نقص التيتانيوم والمعادن النادرة قد يتحول إلى تهديد استراتيجى لا يقل خطورة عن التهديد العسكرى ذاته. • • • أما روسيا، التى تقاتل وتنتج تحت العقوبات فى آن واحد، فقد سجلت شركاتها زيادة بلغت 23%. ورغم نقص المكونات والعمالة الماهرة، فإن الطلب المحلى المرتفع عوّض التراجع فى الصادرات، فى مفارقة تُظهر قدرة الصناعات الروسية على الصمود رغم الحرب الطويلة. وفى آسيا، تراجع العملاق الصينى لأول مرة منذ سنوات، بعد أن أطاحت فضائح الفساد بعقود ضخمة وتسببت فى انخفاض إيرادات الشركات الصينية بنسبة 10%، فى وقت صعدت فيه اليابانوكوريا الجنوبية بقوة مدفوعة بطلب أوروبى وآسيوى غير مسبوق؛ فاليابان وحدها سجلت زيادة قدرها 40%، بينما ارتفعت إيرادات كوريا الجنوبية بنسبة 31%، لتصبح إحدى أسرع الأسواق العسكرية نموًا فى العالم. لكن التطور الأكثر لفتًا للنظر جاء من الشرق الأوسط؛ فلأول مرة يظهر فى قائمة «سيبرى» تسعة منتجين من المنطقة بإجمالى إيرادات بلغ 31 مليار دولار. الشركات الإسرائيلية زادت مبيعاتها العسكرية ب16% رغم الغضب الدولى على حرب غزة، بينما واصلت تركيا والإمارات توسعًا جعل المنطقة تتحول من مستورد تقليدى للسلاح إلى مركز إنتاج ناشئ بات يفرض نفسه على الخريطة العالمية. • • • الصورة العامة التى ترسمها هذه الأرقام لا تحتمل كثيرًا من التأويل: العالم يتسلح بغير توقف، ويتصرف كما لو أن الحرب لم تعد احتمالًا، بل قدرًا يجب الاستعداد له. وفى كل دورة من هذا النوع عبر التاريخ -من أوروبا ما قبل 1914 إلى العالم عشية الحرب الباردة- كان سباق التسلح يمهد الطريق للحرب، لا للسلام. أما اليوم، فالمشهد يبدو أخطر؛ لأن كل القوى الكبرى تتقدم فى الاتجاه ذاته، فيما تتزايد نقاط الاشتعال، وتتراجع الوساطات، وتتآكل الثقة بين الدول. وإذا كانت صناعة السلاح هى الرابح الأكبر، فإن الخاسر معروف مسبقًا: العالم نفسه، الذى يدفع، مرة أخرى، ثمن خوفه، وثمن تردده، وثمن غياب نظام دولى قادر على كبح جماح سباق يتقدم بسرعة أكبر من قدرة السياسة على ملاحقته.