نتصفح اليوم كتابين من العصر العثمانى. الأول فى أدب الرحلة والثانى فى التدوين التاريخى. • سياحتنامة أربعون عامًا أمضاها الرحالة التركى أوليا جلبى فى تطواف حول العالم العثمانى، فى القرن السابع عشر. فمنذ أن انطلق فى أولى رحلاته، وهو ابن ثلاثين عامًا، أخذ يرى ويسمع ويدون من الحقائق والأساطير ما زاد وفاض على 10 مجلدات. ضمت المجلدات العشرة معلومات فى التاريخ والجغرافيا وعلم اللغة والسياسة والأعراق والفولكلور والدين. الخريطة التى ضمتها رحلات أوليا جلبى احتوت شعوب البلقان والبحر الأسود والقرم والقوقاز وبحر قزوين والشام والحجاز ووادى النيل والحبشة، وهى معلومات بالغة الإثارة والخلط بين ما هو أسطورى وما هو علمى، وما زال ذلك كله يخلب ألباب الباحثين المنغمسين فى فهم عوالم الشرق. ويبدو أنه إلى يومنا هذا عجزت الترجمات العالمية عن أن تنقل كل هذه المجلدات مجتمعة من التركية إلى لغة أوروبية حديثة، وهناك فى كل لغة بعض مجلدات من هذا الإقليم أو ذاك. وفى مصر، لدينا فقط وبعد تجارب ونزاعات بين ورثة المترجمين وأصحاب المخطوطات المجلد الأخير الذى يهتم بفترة ترحاله فى مصر. يضم المجلد الخاص بمصر معلومات ذات دلالة عن تلك الفترة، أثبت التاريخ صحة كثير منها، وما زال بعض منها محل جدال ونقاش وبحث وتفتيش وتمحيص. فى الفترة التى زار فيها أوليا جلبى مصر (1672-1680) كانت بلادنا ولاية عثمانية تعيش فترة بائسة من مسلسل معاناتها الممتدة عبر قرون. ينقل أوليا جلبى صورا مخزية من حياة المصريين فى القاهرة، منتخبا المشاهد البائسة التى تتنوع من فوضى الحمير ونهيقها إلى عشش الصفيح فى باب اللوق التى تضم العاهرات ومحترفى الشذوذ بين الرجال. فى هذه الفوضى الحياتية التى صورها أوليا جلبى يضع يده على أصل المشكلة، وهى أن الإدارة العثمانية لمصر مسئولة عن هذا التردى الكبير. ولكن أوليا جلبى بدلا من أن يكتب بإنصاف أن السلطان العثمانى يرسل مجموعة من اللصوص المستبدين إلى مصر لينهبوا خيراتها إذ به يقول إن كل واحد من هؤلاء يأتى راغبا فى الإصلاح، لكنه يتحول بعدها إلى مستبد، كيف لا وقد شرب من ماء النيل وأصبح مثل الفراعنة؟ هذا التفسير المضلل الذى يطرحه أوليا جلبى لا يقلل من خطورة وموسوعية البيانات التى يضمها سفره العظيم، فلدينا صفحات بالغة الأهمية عن كيفية جمع المصريين كل عام ألفى كيس من الذهب لترسل إلى السلطان العثمانى. المماليك الذين يجمعون هذه الأموال من دماء المصريين اتفقوا مع السلطان العثمانى أن يحصلوا على مصاريف جمع ونقل وتوصيل ومهرجانات وأبهة واحتفالات. كان المبلغ الذى ينفق على مظاهر التوصيل والمهرجانات يستنزف 800 كيس من الذهب فلا يصل إلى السلطان سوى 1200 فقط! على هذا النحو يرسل السلطان بعدها بقليل بضرورة أن يجمع المصريون أموالا إضافية تسمى «مصاريف جيب السلطان!». صفحات عديدة يضمها المجلد العاشر من «سياحتنامة» أو «كتاب السفر والترحال» يسرد صورا تفصيلية لعشرات المهرجانات والاحتفالات وإهدار أموال البلاد والعباد على المظاهر الباذخة للسلطة ووكلائها. فى خلفية هذه الاحتفالات المزركشة والمهرجانات المدعومة بالرقص والطبول تبدو صورة الشعب الذى يجمع كل شىء ليقدمه إلى باشوات مصر الذين أرسلهم السلطان العثمانى للحكم. نطوى المجلد العاشر، وتختلط فى الذهن صور ومشاهد مخيفة ومحزنة ومدهشة، ويتبقى منها عالقا لا يغيب محاولة أوليا جلبى إقناعنا بفكرة حتمية أقرب إلى القضاء والقدر، من أن باشوات مصر الذين يرسلهم السلطان العثمانى كان بوسعهم أن يكونوا صالحين حكماء يحبون العدل ويرفعون الظلم، لكن كيف السبيل وقد «شربوا من ماء النيل وأصبحوا مثل الفراعنة»! (2) كتاب الدرة المصانة مؤلف «كتاب الدرة المصانة» ليس مؤرخا محترفا، يحلل ويقارن ويربط، بل جنديا مملوكيا يرصد عصره الذى شهد عليه بلغة عامية غير متكلفة. ولأن هذا الجندى ترقى فى الحكم فقد حمل لقب «الأمير» واسمه الأمير «أحمد الدمرداشى» ولقبه منسوب إلى طريقة صوفية كانت قد تأسست فى مصر وقتها وهى الطريقة «الدمرداشية». الكتاب توثيق لحوادث التاريخ المختلفة بطريقة المذكرات التى مرت بمصر خلال سبعة عقود متصلة منذ نهاية القرن ال 17 وحتى منتصف القرن ال 18، وبالتحديد حتى عام 1755 م. ويمكن استخلاص أهم ما جاء فى هذه الحوادث فى المشاهد الكبرى التالية: رغم ما تحمله هذه المرحلة من مسمى "العصر العثمانى" فإن البطل الأساس فى صنع أحداثها هم المماليك الذين جاءت الدولة العثمانية لتقضى عليهم فتحول الأمر إلى سيادة اسمية عثمانية. قامت هذه الثنائية على أن يرسل سلاطين آل عثمان حاكما عاما يسمونه «باشا مصر» يكون همه الأول الإيقاع بين المماليك وشغلهم بأنفسهم ويكون همهم الأول إفشال حكمه وتعطيل دوره بل وإجبار الدولة العثمانية فى كثير من الأحيان على استبداله. كان المماليك أنفسهم منقسمين متصارعين لا تجمعهم رابطة واحدة بل تفرقهم المصالح والتحالفات المتغيرة وينقلبون على بعضهم البعض. تركت هذه الثنائية السلطوية الشعب المصرى عرضة لوضع بائس وكان الفلاحون فى الفيوم وبنى سويف وغيرها يعانون الأمرين من هجمات العربان التى طالت الزرع والنفس والعرض! لدرجة جمع فيها الفلاحون توقيعات ورسائل وخطابات للسلطان العثمانى يخبرونه عن فشل الحكام فى حماية أعراض نسائهم من هجمات العربان الذين كانوا ينزلون من الصحراء الغربية للنهب والسلب وإفساد النساء. لم تنج الرحلة المقدسة التى تحملها قافلة الحج إلى مكة والمدينة من المصاعب والتهديدات، فتعرض الحجيج لنهب العربان ومشاق السفر غير الآمن عبر الصحارى المصرية. والكتاب شاهد على عصره فى ثبت بأسماء القبائل فى كل من الوجه البحرى والقبلى. من الناحية اللغوية يعد الكتاب توثيقا للمصطلحات الإدارية والعسكرية التى كانت مستخدمة فى مصر خلال القرن ال 18. كما يعد الكتاب مصدرا للمراسم الديوانية والحكم إذ يسجل كيف كان يتم استقبال «باشا مصر» سواء عبر البحر فى الإسكندرية ومنها إلى رشيد ثم القاهرة أو وصوله برا من الشام فيتم استقباله فى الخانكة على مشارف القاهرة. يضم الكتاب أيضا مراسم عقد جلسات الإدارة للبلاد خاصة «الديوان» و«الجمعية». رصد الكتاب الأزمات الاقتصادية التى مرت بها مصر خلال تلك الفترة والتى عادة ما تبدأ بظروف طبيعية مع انخفاض منسوب النيل، تعقبها أزمات اجتماعية بسبب ارتفاع الأسعار وجشع التجار وعجز الفلاحين عن زراعة الأراضى وانتشار الفقر والعوز والجوع وأكل القطط والرمم. كانت الأزمات أيضا تحدث إذا جاء الفيضان مرتفعا يدمر الحقول ويغرق الأراضى فلا يستطيع الفلاحون زراعتها فيهجرون أرضهم. وفى كل حال يصاب الفلاحون بحالة من الجوع والفقر وارتفاع الأسعار وانتشار السلع المغشوشة أو المزيفة. انتشار بعض الأوبئة مثل تفشى الطاعون فى حوارى وأزقة القاهرة كما فى واقعة عام 1696م وذلك بعد أن تسبب انخفاض منسوب النيل فى هجرة شباب الفلاحين أراضيهم فجاءوا إلى القاهرة وتكدسوا فى أزقتها ونال الطاعون منهم وكان كل صباح جديد يحمل نبأ موت العشرات منهم حتى تبرع لهم أهل الإحسان بعمل مقابر جماعية لهم. المخطوطة الأصلية لكتاب «الدرة المصانة» حصل عليها المؤرخ الكبير أ.د أحمد عزت عبد الكريم من المتحف البريطانى وقدمها لتلميذه أ.د عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم خلال إعداد الأخير لرسالته للدكتوراه تحت إشرافه عن الريف المصرى فى القرن ال 18. وحين وجد د.عبد الرحيم وقتا كافيا بعد الدكتوراه أعاد تحقيق المخطوطة وقدمها للمعهد الفرنسى للآثار الشرقية الذى طبعها فى الكتاب الذى بين أيدينا فى نحو 300 صفحة وصدرت الطبعة لأول مرة فى القاهرة عام 1989. يغطى الكتاب الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى مرت بمصر المحروسة من عام 1688م مع وصول «بلطجى حسن باشا» وحتى حكم «على باشا ابن الحكيم» عام 1755. وفيما بين «بلطجى باشا» و«على باشا» سبعة عقود مر خلالها 34 حاكما أرسلتهم الدولة العثمانية ليحكموا هذا البلد فى ظل صراع المماليك ومعاناة الشعب المصرى وكان كل واحد من هؤلاء الحكام يحمل دوما لقبا أثيرا وثيرا هو «باشا مصر».