إنه الشتاء فى فلسطين، ويعانى سكان غزة من برد الطقس والتاريخ. أما نسيم تضامننا العربى الدافئ فيتوقف عند الحدود ولا يصل إليهم. لقد عادت فلسطين القضية والمبدأ إلى الحياة بصخب فى كل مكان حول العالم، لكنها تواجه خطرا داهما، حيث يترصد الغزيون اليوم شبح التطهير العرقى واحتمال الدفع بهم إلى الصحراء. لقد جعلت إسرائيل هذا الجزء الصغير المزدحم من فلسطين غير صالح لعيش البشر بعد أن حولت آلتها الحربية التى زودتها بها الولاياتالمتحدة قطاع غزة إلى حقل للتقتيل. فبعد حوالى واحد وتسعين يوما استشهد أكثر من 22 ألف شخص فى غزة، وأصيب أكثر من 57 ألف شخص بجراح، وقد يموت الكثير منهم بسبب المرض ونقص الرعاية الصحية، كما تعرض سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون إنسان إلى صدمة ستلاحقهم مدى حياتهم. دُمّر كذلك أكثر من 61 بالمائة من المنازل أو أصيبت بأضرار بالغة، ونهب الجنود البيوت، ودنسوا خصوصية سكانها، وأعادوا إلى الأذهان مناظر «أبو غريب» لمئات الرجال الذين اختطفوهم. وشوهت الصواريخ والقنابل والجرافات المشهد الطبيعى والمعمارى، ودمرت البنية التحتية والمؤسسات العامة؛ مدارس وجامعات ومكتبات ومساجد. تعطّلت المستشفيات تماما ودُمر بعضها، وقُتل الأطباء والممرضون وغيرهم من العاملين فى الحقل الطبى، وحُرم الأطفال الخدج من الحاضنات وإمدادات الأكسجين. وقد منعت إسرائيل الغذاء والماء والوقود عن الجميع فى معظم الأحيان، وتركتهم يعانون الجوع والعطش. وباتت الأمراض تنتشر، ولا يستطيع المرضى العثور على الأدوية. لذا حذرت العديد من منظمات المساعدات الإنسانية الدولية مرارا أن المذبحة جعلت قطاع غزة غير صالح للحياة وتركت النظام الاجتماعى ينهار أو ينتظر القشة الأخيرة التى يُضرب بها المثل، وأصبح الخروج من القطاع هو الطريق الوحيد المتبقى للنجاة، مهما كان هذا الخيار مؤلما. ●●● أعلنت كل من مصر والأردن بشكل لا لبس فيه أن الطرد القسرى لسكان غزة إلى سيناء المصرية، وسكان الضفة الغربية إلى الأردن يشكل تهديدا لأمنهما القومى، وهو بالتالى غير مقبول على الإطلاق. وقد قدّم كلاهما بعض المساعدات لغزة. وأنشأ الأردن مستشفى ميدانيا ويزوده بالإمدادات الجوية، وهذا يساعد ولو قليلا. لكن مصر هى القناة الرئيسية للمساعدات لاشتراكها مع غزة فى معبر رفح البرى، وهى تساهم بحصتها الخاصة وتنسق المساعدات الواردة من الدول والمنظمات الأخرى، والتى يتم التعامل معها داخل غزة من قبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا). غير أن المساعدات التى تدخل غزة ما تزال قليلة ومتقطعة بالنسبة لحجم الاحتياجات. وتحذّر جميع منظمات الإغاثة الإنسانية من أن النزوح الجماعى أصبح أمرا لا مفر منه تقريبا؛ وقد ينقطع آخر خيط أمل فى أى لحظة. إن أسرع طريقة لمنع هذه النتيجة الكارثية هى وقف فورى لإطلاق النار، والذى أصبح مطلبًا عالميًا تقريبًا لجميع الدول، باستثناء الولاياتالمتحدة، الراعى ومزود السلاح والضامن السياسى لهذه الحرب العدمية الداعشية على الشعب الفلسطينى، والتى تستخدم حق النقض، أو الڤيتو، فى مجلس الأمن الدولى لتمنح إسرائيل الوقت لتستمر فى عدوانها. وفى غياب وقف فورى لإطلاق النار، فالخيار الوحيد المتبقى هو تكثيف وتسريع وتيرة توزيع المساعدات ليطمئن سكان غزة (85% منهم أصبحوا بلا مأوى) أن العالم الذى تهمه حياتهم ولم يتركهم وحدهم. مصر بذلت جهودا كبيرة لكنها تحتاج هى وبقية المجتمع الدولى إلى الضغط على إسرائيل للسماح بدخول الإمدادات اللازمة، ولذا فنحن فى هذه اللحظة المصيرية بحاجة إلى طريقة أخرى للضغط على إسرائيل. ●●● اقترحت نقابة الصحفيين المصريين تشكيل «قافلة ضمير العالم». وقد استجاب العديد من المنظمات والأفراد لهذا النداء، ولكن حتى الآن لم يدخل هذا الاقتراح حيز التنفيذ. واقترح الطبيب والناشط الفلسطينى مصطفى البرغوثى أن تتم رعاية قافلة مساعدات من قبل الدول العربية والإسلامية السبعة وخمسين التى حضرت اجتماع القمة الذى عقد فى الرياض شهر نوفمبر الماضى. من الممكن الجمع بين الفكرتين لتشكيل قافلة مساعدات عالمية مستدامة، وتسميتها «قافلة الحياة»، أو أى اسم آخر قد يراه المشاركون مناسبا. وزيادة على ذلك، فإن الحملة تتعزز بالدعوة لتكثيف المساعدات إلى القطاع والواردة فى قرار مجلس الأمن الصادر يوم 23 ديسمبر الماضى، بالرغم من إشكاليته من ناحية ضرورة وقف إطلاق النار. سيتمتع مثل هذا التحالف الدولى المشترك للمساعدات بنفوذ سياسى عظيم وسلطة أخلاقية مقنعة. وأنا متأكد أن عددًا لا يحصى من المتطوعين سيرغبون فى الانضمام، من المشاهير ومن المغمورين على حد سواء، من جميع الأمم والأعراق والأديان ومناحى الحياة، مع أن الحاجة إلى العاملين فى الرعاية الصحية قد تكون الأكثر إلحاحا. من الضرورى طبعا وضع العديد من التفاصيل اللوجستية. وهذا لا يعنى طبعا أن المسئولية هنا تقع على مصر وحدها، فهى قافلة دول عربية إسلامية ومفتوحة لمنظمات عالمية وأية دول أخرى تود المشاركة. ولا شك أن الكثير من الدول والمنظمات والأفراد سوف يودون الانضمام إلى قافلة كهذه، كما تدل على ذلك المساهمة الحالية فى تقديم المساعدات والاستجابة لمبادرة نقابة الصحفيين المصرية. لكن كمثل أى حملة أو مجهود واسع كهذا لا بد من طرف فاعل يبادر له ويقوده. سوف يحس المشاركون من بقية الدول والملايين من الناس حول العالم الذين يؤيدون فلسطين، والذين ترتطم إرادتهم بموقف لا أخلاقى من حكومة الولاياتالمتحدة التى توفر الدعم المادى والضمان السياسى للحرب المدمرة على غزة. وأخيرا، لا بد أن يُشعر مثل هذا التضامن الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة أنهم ليسوا وحدهم فى مواجهة جهاز حرب فقد صوابه، وقد يعيد ثقتهم المتداعية فى البشرية التى لم تستطع خلال أكثر من شهرين طويلين نجدتهم فى محنتهم، ولربما يكون أيضا مصدر إلهام لهم للبقاء مغروسين فى أرضهم وإعادة بناء غزة صاخبة بالحياة.