التاريخ هو صانع المستقبل كما أن الجغرافيا هى وعاء الحاضر بعد احتكاك طويل بأشقائنا فى المشرق العربى والمغرب العربى على امتداد ما يزيد على نصف قرن منذ أن كنت طالبا فى الجامعة وأنا أدرك الفروق الاجتماعية والنفسية بين الجانبين فى إطار العروبة التى تجمع المشرق والمغرب على حدٍ سواء. لقد لاحظت دائما أن أبناء المغرب العربى أكثر احتكاكا بالغرب بحكم قربهم من أوروبا والتأثر الثقافى بالفرنكوفونية نتيجة الوجود الفرنسى فى معظم تلك الدول وتأثيرها الثقافى المعروف، فالفرنسيون شديدو الاهتمام بالتمكين لثقافتهم ونشر لغتهم وهو أمر اختلف عنه الدور البريطانى فى معظم دول المشرق العربى باستثناء لبنان، لأن التقبل الثقافى مسألة نسبية تتوقف على عوامل كثيرة ولا يستطيع أن يفرض ثقافته كل من يشاء، فالاستعداد الفكرى والتاريخى يختلف من مجتمع إلى آخر، كما أن درجة التقبل تتوقف على عوامل معقدة وخبرات إنسانية متراكمة، وقد لاحظنا أن اللغة الفرنسية وجدت طريقها إلى لهجات دول الشمال الأفريقى بل ودخلت كلمات فرنسية كتعبيرات دارجة فى لهجتهم العامية، ذلك أن تبادل التأثير والتأثر بين الدول يجعل أنماط الحياة متقاربة، فالمطاعم المغاربية تجد مكانها فى المدن الفرنسية أكثر من أى دول أخرى، كما أن مظاهر الحياة تبدو أحيانا متشابهة. وبالرغم من نجاح جهود التعريب مثلما حدث فى الجزائر، إلا أن آثار الوجود الفرنسى تبدو قوية، وأتذكر أننى كنت ضيفا على الوزير المغربى المرموق محمد بن عيسى فى أحد مهرجانات أصيلة التى أسسها ويرعاها ووقفت يومها على الشاطئ فى طنجة وأنا أكاد أرى الشاطئ الآخر لأوروبا، واكتشفت أن الأرضين الأفريقية والأوروبية متقابلتان فى قرب شديد. يومها، تأكدت أكثر أن الجغرافيا تصنع التقارب وتجمع الشعوب وتنشر الثقافة، لذلك فإن المقارنة بين المشرق العربى والمغرب العربى هى مقارنة لا تبدو عادلة، فالجغرافيا مختلفة والجوار ليس واحدا، كما أن الظروف التاريخية هى الأخرى ليست مشتركة. ولعلى أقدم هنا طرحا يتجاوز الواقع قليلا لنضع أيدينا على نقاط الاختلاف ومظاهر التباين بين الجانبين ويتجلى ذلك فى المحاور الآتية: أولا: إن التاريخ هو صانع المستقبل كما أن الجغرافيا هى وعاء الحاضر. وإذا طبقنا ذلك على دول الشمال العربى الأفريقى، سنجد أن البصمة الفرنسية موجودة فى تونسوالجزائر والمغرب وربما موريتانيا وتبقى ليبيا الاستثناء الوحيد لأن علاقتها بالوجود الأجنبى تأرجحت بين «الطليان» والإنجليز، ولم تعرف الوجود الفرنسى فى تاريخها الحديث. ولذلك، فإن الماضى هو الذى صنع السبيكة الثقافية لدول شمال أفريقيا وجعلها نموذجا متجانسا إلى حد كبير، إذ إن الولاء الفرنسى للثقافة ولاء معروف ومستمر، فالعامل الثقافى يلعب دورا رئيسا فى سياسة فرنسا الخارجية، ولذلك اتسم استعمارها بما يمكن تسميته بسياسة الاستيعاب أى احتواء المستعمرات وكأنها امتداد للأراضى الفرنسية. ولقد دفع ذلك عرب شمال أفريقيا إلى البحث فى مضمون الهوية والتفتيش فى زوايا التاريخ والوقوف أمام فترات منه عندما عرفت المنطقة دول المرابطين والموحدين، وصولا إلى الفاطميين الذين بشروا بالمذهب الشيعى فى مصر وظلوا فى حكمها لما يقرب من قرنين من الزمان حتى جاء حكم صلاح الدين وعادت مصر دولة سنّية كما كانت. ثانيا: إن ظهور النفط فى الجزيرة العربية ومنطقة الخليج عموما غيّر موازين القوى، ونتجت من الاقتصاديات الريعية لدول تلك المنطقة نتائج أهمها الثراء الظاهر الذى جعلها مركز جذب للخبراء والعمال العرب سواء من مصر وسوريا والأردن وفلسطين والعراق، إضافة إلى كوادر وفدت إليها من دول الشمال الأفريقى ولو بنسب أقل، ولكن الخلاصة هى أن الثروة النفطية العربية قد أدت إلى سيولة الحركة بين المشرق والمغرب وأعطت تأثيرا متبادلا للشعور الكامن بمفهوم العروبة فى ظل الإسلام، حتى انشغلت دول المغرب العربى بهموم المشرق، فأصبح العاهل المغربى هو رئيس لجنة القدس، بينما فجرت الثورة الجزائرية قبل ذلك الشعور القومى فى العصر الناصرى على نحو غير مسبوق، ثم استضافت تونس بعد ذلك قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، فضلا عن استضافتها لجامعة الدول العربية فى مقرها المؤقت عندما تركت القاهرة بسبب اتفاقيات كامب ديفيد وما تبعها. فالمغرب العربى اندمج فى المشرق بمنطق الثروة أحيانا ومنطق الثورة أحيانا أخرى. ثالثا: تجلّت عروبة المغرب العربى بعد تحرره من الاستعمار الأجنبى وسيطرت عليه مشاعر قومية قوية، ويكفى أن نتذكر أن أكبر تظاهرة لدعم العراق فى مواجهته مع الولاياتالمتحدة جرت فى شوارع الرباط، إذ احتشد عشرات الآلاف على نحو غير مسبوق تأكيدا للمشاعر العربية المشتركة، كما أن القضية الفلسطينية قد استحوذت على قدر كبير من الاهتمام المغاربى وظلت حتى الآن عاملا مؤثرا فى سياساتها على الرغم من التغييرات التى طرأت على توجهات بعض دول الشمال الأفريقى تجاه إسرائيل بتأثير الجاليات اليهودية فيها. رابعا: لقد أوضحنا أن الاحتلال البريطانى أو الإيطالى مختلف عن الاحتلال الفرنسى الذى هو عملية احتواء كامل كما حدث فى العلاقات الفرنسية الجزائرية لأكثر من مائة سنة، حتى استرد الجزائريون وطنهم وحرروا أرضهم فى كفاح أسطورى معروف، بينما تعايشت دول المشرق مع الاحتلال البريطانى فى مصر والعراق وبعض مناطق الشام والجزيرة العربية. ولذلك، فإن اختلاف الممارسات الاستعمارية لدول الاحتلال فى المشرق عن دولة الاحتلال فرنسا فى المغرب بدوله الثلاث قد أدى إلى نتائج فكرية وثقافية واجتماعية شكلت الفارق بين نوعية الشخصية العربية فى المغرب العربى عنها فى دول المشرق، بخاصة أن القضية الفلسطينية عندما هيمنت على السياسة العربية كانت هى الوعاء الجديد الذى يجمع أطراف الأمة فى اتجاه واحد. خامسا: إن الإسلام الحنيف يشكل بالنسبة إلى عرب الشمال الأفريقى قومية إلى جانب أنه عقيدة دينية، فالجزائريون عندما حاربوا الاستعمار الفرنسى المشترك معهم ثقافيا، فعلوا ذلك تحت رايات الإسلام الذى لم يكُن مجرد دين يعتنقونه ولكنه أيضا هوية فكرية وسياسية يلتفون حولها، والقياس وارد على دول شمال أفريقيا العربية الأخرى التى واجهت الاستعمار الغربى بالمنطق ذاته، وهو الاعتصام بالهوية الإسلامية عندما كانت أبعاد العروبة بمفهومها الحديث غير واضحة الملامح للعقل الأفريقى العربى، حتى أصبحنا نشهد النضال باسم الإسلام فى معارك التحرير من أجل الاستقلال الوطنى وتعبيرا عن رفض التبعية للمحتل الأجنبى. هذه قراءة فى ملف الهوية العربية نريد أن نستخلص منها أن دول المغرب العربى عندما تنظر شمالا إلى جنوب أوروبا، فإنها لا تنقلب على هويتها ولا تمضى فى طريق يتباين مع عروبتها ولكنها تفعل ذلك إحساسا بأن مفهوم الحداثة مرتبط بمنطق التغريب. لذلك، فإن معدلات النمو فى بعض أقطار المغرب العربى تسبق دول المشرق إذا ما استبعدنا عامل الثروة النفطية الذى طرأ على الحياة العربية فى المائة عام الأخيرة، إن التجارب التنموية الناجحة إلى حد كبير فى دول المغرب العربى وأعنى بها تلك المتصلة بالتحول الاقتصادى الناجح مثلما هو الأمر فى المغرب والجزائر، والتمكين الناجح فى البناء الاجتماعى مثلما هو الأمر فى تونس منذ عهد الحبيب بورقيبة على نحو يكشف فى النهاية أن دول المغرب العربى تمثل نسيجا متميزا يضيف إلى الأمة العربية درجة من التعددية والتألق يجعل النظر شمالا دعما للارتباط شرقا وليس خصما منه! نقلا عن إندبندنت عربية