تحتفل قناة السويس هذا العام بالذكرى ال150 لافتتاحها، التي تم حفرها عن طريق سواعد نحو مليون فلاح مصري أجبروا على ترك حقولهم وقراهم لكي يشقوا الصحراء في أجواء من المرض والإهانة ظلت حبيسة الظل، بدلًا من العمالة الأجنبية التي اعترضت بريطانيا عليها خوفا على مصالحها. في هذا التقرير نسلط الضوء على جهود الشعب المصري في حفر القناة وما تعرضوا له من مشكلات وأوبئة بعد سحب العمالة الأجنبية آنذاك، وذلك اعتمادًا على كتاب "السخرة في حفر قناة السويس" للكاتب عبدالعزيز الشناوي، في طبعته الصادرة عام 2010 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. شكلت الأيدي العاملة الأجنبية في مشروع حفر قناة السويس قلقًا لبريطانيا نتيجة الوضع السياسي القائم في مصر ذلك الوقت وتمتع الجاليات الأجنبية باستقلال في التشريع والقضاء والإدارة، وهو ما خوف بريطانيا من أن تستقدم فرنسا أياد عاملة فرنسية تتحول مع الوقت نتيجة التحاق أهاليهم بهم إلى مستعمرات فرنسية داخل الأراضي المصرية. مشكلة الأيدي العاملة اللازمة للعمل في القناة، لم تغب عن بال من كان في القسطنطينية وهو ما يظهر في برقية أرسلها كامل باشا من القسطنطينية يحذر الوالي سعيد باشا من عواقب تأييده لمشروع القناة والسير وراء فرنسا وديليسبس. استغل ديليسبس التخوفات من الأيدي العاملة الأجنبية، وساهم في تصوير خطورته لسعيد باشا حتى يتحمل الشعب المصري وحده عبء حفر القناة، مع أن السبب الأساسي يكمن في الأجور الواسعة التي كان سيحتاجها العمال الأجانب، فضلًا عن إنتاجهم الضئيل بالنسبة لنظرائهم من المصريين، وارتفاع درجات الحرارة في مصر التي لا تلائمهم بالمرة فكان من المحتمل إصابتهم بالأمراض نتيجة حرارة الجو، فالمصريين يتفوقون على العمال الأجانب بالجلد والقوة والصبر وتحمل العمل المضني في الجو الصحراوي الحار. وبالرغم من ذلك اضطرت المعارضة الإنجليزية لاستقدام العمالة الأجنبية لمشروع القناة إلا أنها اتخذت قرارًا بالحد من استخدامهم في تنفيذ المشروع، والتركيز على العمال المصريين دون مراعاة أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية في وقت وصل فيه عدد سكان مصر لأقل من 4 ملايين، فالبلد الزراعي الذي اعتمد في زراعته على سواعد الفلاحين أكثر من اعتماده على آلات الحرث الميكانيكية سيؤدي التوسع في استخدامهم في حفر القناة إلى ضرر بالغ على الإنتاج الزراعي والمصالح الاقتصادية، إلا أن هذا الأمر كان أكبر من أن يواجهه سعيد باشا بذكائه المحدود وعقليته المتوسطة. وعندما شرعت إدارة القناة في الحفر في 25 أبريل 1859 كان قد مر على توقيع العقد أربع سنوات، لم تستقدم الشركة فيهم أية آلات ميكانيكية أو "كراكات" باستثناء كراكتين قوة كل منهما عشرين حصانًا حضروا قبل شهر من بدء الحفر رسميا، على الرغم من أن طول القناة واتساعها وعمقها كان أخطر ما تواجهه الشركة بكراكتين من هذا النوع، وهو ما يؤدي إلى نتيجة أن النية كانت مبيتة لاستغلال الشعب المصري في حفر القناة. وأثناء عملية الحفر أصيب أكثر من 0.3% من عدد العمال بالعديد من الأمراض، في حين أن نسبة الوفيات بين المرضى وصلت إلى 12% تقريبًا، أي توفي ما يقرب من 120 ألف مصري بسبب الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة، ومعظمهم لم يستدل على جثمانه ودفن في الصحراء أو تحت مياه القناة، حيث انتشرت بين العمال في ساحات الحفر، النزلات الشعبية والأمراض الصدرية والرمدية وحالات الإسهال الشديد، والدوسنتاريا وأمراض الكبد، فانتشار الرمد وحده يرجع إلى عدة أسباب منها التعرض للبرودة الشديدة ليلا عقب الحرارة المرتفعة نهارا، وكذلك أشعة الشمس المحرقة وتأثيرها على شبكية العين، وطبيعة عمليات الحفر إذ أن نقل الأنقاض يملأ الجو بذرات التراب التي ينقلها الهواء إلى العين.