فى إبريل 2014 وقبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى الجزائر التى أعطت لعبدالعزيز بوتفليقة عهدته الرابعة، نشرت مؤسسة «الباروميتر العربى» (مؤسسة بحثية معنية باستطلاعات الرأى العام) بالتعاون مع مبادرة «الإصلاح العربى» (مركز عربى للتفكير فى قضايا الإصلاح) دراسة تفصيلية عن القضايا التى تهم الشعب الجزائرى وتقييمه لأداء الحكومة ومؤسسات الدولة وتفضيلاته فيما خص مسألة الديمقراطية. آنذاك أظهرت الدراسة المعنونة «تجاوز الربيع العربى» ميلا واضحا لدى أغلبية الجزائريين لتفضيل استقرار أوضاع بلادهم السياسية والابتعاد عن طلب التغيير خوفا من تدهور محتمل للاقتصاد والأمن. فرأى 66 بالمائة ممن استُطلعت آراؤهم فى 2013 أن الحالة الاقتصادية تتراوح بين الجيدة والجيدة جدا فى مقابل نسبة لم تتجاوز 32 بالمائة كان لها نفس التقييم فى 2011، أى إن معدلات الرضاء الشعبى عن الاقتصاد تضاعفت بين 2011 و2014. وبينما طالبت أغلبية كاسحة 77 بالمائة بمواصلة الاهتمام بالاقتصاد وأمور الفقر والتضخم كأولوية أولى، جاءت مواجهة الفساد كأولوية ثانية استحوذت على اهتمام 15 بالمائة ممن استطلعت آراؤهم. أما شئون الديمقراطية وضمانات الحقوق والحريات السياسية والمدنية فلم تزد نسبة من صنفوها كأولوية عن 3 بالمائة، وقررت نسبة 30 بالمائة من المهتمين بشئون الديمقراطية والحقوق أن وضعها الإجمالى جيد مقارنة ب 6 بالمائة عبروا عن ذات الرأى فى 2011. كذلك ارتفعت بين الجزائريين مؤشرات الرضاء العام عن الأمن من 54 بالمائة فى 2011 إلى 69 بالمائة فى 2013، وعن سياسات وأداء الحكومة من 10 بالمائة فى 2011 إلى 40 بالمائة فى 2013، بل أن 47 بالمائة ذهبوا فى 2013 إلى أن حكومة بوتفليقة تسير بهم نحو تحول ديمقراطى ناجح. *** وعلى النقيض من ارتفاع مؤشرات الرضاء العام عن الاقتصاد والأمن والحكومة، جاءت آراء الجزائريين شديدة التحفظ على طلب التغيير السريع كما على الخلط بين شئون السياسة والدين. فى 2011 أيد 54 بالمائة الإصلاح التدريجى، وبلغت نسبة التأييد هذه 78 بالمائة فى 2013. وللتدليل على عمق رفض التغيير السريع أو الراديكالى فى أوساط الشعب الجزائرى، سجلت أغلبية ساحقة فى 2013 قناعتها أنها تملك حرية التعبير عن الرأى (76 بالمائة) وحرية التصويت فى الانتخابات (89 بالمائة) وحرية الانضمام إلى الأحزاب السياسية (80 بالمائة) على نحو يؤهلها للإسهام فى مسارات الإصلاح التدريجى. ذات الأغلبية عبرت أيضا عن رفضها الخلط بين السياسة والدين ومعارضتها لتدخل رجال الدين فى الانتخابات ومحاولتهم التأثير على نتائجها (78 بالمائة). ثم فى إبريل 2017، أى قبل عامين من تطور الحراك الاحتجاجى الحالى الذى رتب استقالة الرئيس بوتفليقة، كانت مؤسسة «الباروميتر العربى» قد عادت لنشر نتائج تتبعها لآراء وتفضيلات الشعب الجزائرى فى دراسة عنونت «الجزائر خمسة أعوام بعد الانتفاضات العربية». ولم يكن أمام من طالع الدراسة هذه وتعامل بشىء من الجدية مع تفاصيلها سوى أن يتوقع أن قطاعات واسعة من الجزائريين فى سبيلها إلى الخروج إلى الفضاء العام لطلب التغيير السريع الذى لم يفضلوه بين 2011 و2014. ففى 2016، تهاوت نسبة الجزائريين الراضين عن الحالة الاقتصادية لبلادهم إلى 27 بالمائة بعد أن كانت 66 بالمائة فى 2013. وسجل الاهتمام بمواجهة الفساد ارتفاعا ملحوظا ليستحوذ كأولوية ثانية تلى الاقتصاد على نسبة 27 بالمائة من توزيع الجزائريين لأولوياتهم بعد أن كانت نسبته 15 بالمائة فى 2013. بل إن 60 بالمائة ممن استطلعت آراؤهم فى 2016 قرروا أن الفساد فى الجزائر صار واسع النطاق، واعتبرت نسبة 30 بالمائة أن حكومة عبدالعزيز بوتفليقة لا تحاول على الإطلاق مواجهة الفساد وصنفت نسبة 27 بالمائة جهود المواجهة بالضعيفة. وبينما بقيت فى 2016 مؤشرات الرضاء العام عن الأمن مرتفعة (70 بالمائة)، تراجعت الثقة الشعبية فى سياسات وأداء الحكومة إلى أقل من 40 بالمائة وتهاوت فيما خص الاقتصاد وأمور الفقر والتضخم إلى ما دون 20 بالمائة (14 بالمائة لجهة التضخم وضبط الأسعار، 15 بالمائة فيما خص تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، 18 بالمائة بشأن الحد من البطالة وخلق فرص جديدة للعمل). وفى مقابل تراجع الثقة الشعبية فى الحكومة، بلغت معدلات الرضاء العام عن القوات المسلحة 75 بالمائة وعن الشرطة (المكلفة بحماية الأمن) 60 بالمائة. *** أما عمليات الانتخاب التى بدت لأغلبية كاسحة من الجزائريين ذات مصداقية وفاعلية سياسية بين 2011 و2014، فتهاوت الثقة الشعبية بها فى 2016 لتقتصر على 9 بالمائة ممن يرون أن الانتخابات حرة ونزيهة بالكامل و19 بالمائة ممن يقيمونها كحرة ونزيهة إلى حد ما. وبلغت نسبة الجزائريين الذين يصنفون عمليات الانتخاب كمفتقدة للحرية والنزاهة إلى 36 بالمائة. من جهة أخرى، أيد 69 بالمائة الإصلاح التدريجى فى 2016 كسبيل للتحول الديمقراطى فى الجزائر بعد أن كانت نسبة هؤلاء 78 بالمائة فى 2013. ووافقت بشدة نسبة 24 بالمائة ووافقت بوضوح نسبة 50 بالمائة (معا 74 بالمائة) على أن الديمقراطية هى أفضل أنواع نظام الحكم مقارنة بغيرها وعلى كونها مناسبة لأوضاع الجزائر. بل إن 51 بالمائة ممن استطلعت آراؤهم ذهبوا فى تفضيلهم للديمقراطية إلى ما هو أبعد بتقريرهم أن الحكومة البرلمانية الديمقراطية التى تتداول بها السلطة بين الأحزاب السياسية هى الأكثر ملاءمة لبلادهم. وبينما ارتفعت معدلات تفضيل الديمقراطية، تراجعت نسب الجزائريين المقتنعين بتمتعهم بالحقوق والحريات مثل حرية التعبير عن الرأى وحرية التصويت فى الانتخابات وحرية الانضمام إلى الأحزاب السياسية من حدود ال80 بالمائة فى 2013 إلى ما دون 60 بالمائة فى 2016. تغيرات جوهرية، إذا، هى تلك التى طرأت على آراء وتفضيلات الشعب الجزائرى الذى ألفى نفسه فى 2016 وما بعدها مجردا من رضاء الأغلبية عن الحالة الاقتصادية وفاقدا للثقة فى عزم الحكومة على مواجهة الفساد ومقتنعا أن الديمقراطية هى نظام الحكم الأفضل لبلاده ومنفتحا على جدوى التغيير السريع دون انتظار لحكومة لا تثق بها سوى الأقلية. وليس فى الحراك الحالى بمطالبه المتعلقة بالتداول الديمقراطى للسلطة وبمواجهة الفساد وإبعاد النخب الفاسدة غير الترجمة المباشرة لهذه التغيرات الجوهرية فى المزاج العام للجزائريين والتى حتما ستواصل وضع الجزائر على أعتاب تحولات سياسية متسارعة. أبعد كل هذا يختزل البعض حراك الجزائر فى هدف إزاحة رئيس جمهورية مريض؟ أبعد كل هذا يتجاهل البعض الآخر دور الشعب الواعى الذى خرج إلى الفضاء العام مطالبا بالتغيير ويعتبرون أن ما يحدث اليوم فى الجزائر لا يتجاوز الصراع على السلطة بين نخب عسكرية وأمنية ومدنية متناحرة؟ تلك قراءات يجافيها الصواب وتغيب عنها الموضوعية. أستاذ علوم سياسية وباحث فى جامعة ستانفورد