المذكرات تحكى تأثيرات عكاشة على حركة الفن والثقافة فى مصر وكيف أسس فرقة الموسيقى العربية وفرقة باليه القاهرة ومشروع الصوت والضوء.. وتطويره لأكاديمية الفنون «تاريخ الوجود كله ليس إلا كلمة منى أو كلمة منك أكتبها أنا أو تكتبها أنت، غير أنه ينبغى أن تكون هذه وتلك صادقة، لا تحوير فيها ولا تبديل، هذا ما جال بخاطرى وأنا أسجل ما كان من دور شاركت فيه من قريب أو بعيد، فى تاريخ مصر القريب، أعنى التاريخ الذى يبدأ بقيام ثورة 23 يولية 1952، على أن ما كتبته عن مشاهدة ومعاينة فإنما أنقله مطمئن النفس، وأما ما كان منى رأيا أو تبريرا فأمره بينى وبين الناس، يأخذون على وآخذ عليهم فيه، ومجال القول ذو سعة». بهذا الكلمات يستهل الدكتور ثروت عكاشة كتابه «مذكراتى فى السياسة والثقافة» الصادر فى طبعة أولى خلال ثمانينيات القرن الماضى، عن «دار الهلال» قبل أن تعيد «دار الشروق» نشره فى طبعة جديدة. تعدت صفحاته ال1000، يعرض خلالها الحياة الاجتماعية المصرية، وأحوالها السياسة والثقافية والفنية، وما كان له من دور محورى خلال تلك الحقبة الزمنية المهمة فى تاريخنا المعاصر. تنقسم المذكرات إلى شقين، الأول واقع لا مسحة فيه للخيال، يتناول خلاله الثورة ومشاركته فيها وجانبا من حياته العملية الرسمية فى مصر والخارج «عسكريا ودبلوماسيا ووزيرا وعضوا بالمجلس التنفيذى لمنظمة اليونسكو، والشق الثانى، فإنه تأملات قد يكون للخيال ونزوات العقل فيها نصيب، فترات عاشها بعيدا عن السياسة، وخواطر عما شاهده فى أوروبا». فى الجزء الأول يبدأ «عكاشة» بسرد شذرات من الأمس البعيد، فيبدأ من لحظة ميلاده «1921» وكونه طفلا ينتمى لأسرة عسكرية، محبة للقراءة وتشجعه عليها، والده يعمل ضابطا فى الحرس الملكى، ويلحق ابنه للدراسة بكلية الحقوق، وهو ما لا يلقى هوى فى نفس الابن، لينتقل دون علم والده للدراسة فى الكلية الحربية، حيث يتبدل مسار حياته للأبد. ويروى صاحب المذكرات وضع الجيش والملك وقوات الاحتلال قبل الثورة، ثم علاقة الصداقة مع زميله جمال عبدالناصر، وبدايات تشكل تنظيم الضباط الأحرار، وكيف اجتمع شمل أعضائه من فرق الجيش المختلفة، والمنشورات التى كانت تصدر عنهم والجماعات السياسية القائمة فى تلك الحقبة، وعن حرب فلسطين، ثم نجاح الثورة، وإجراءات وأحداث ما بعد ليلة الثورة، وحتى لحظة خروج الملك على ظهر الباخرة الملكية «المحروسة». ليستكمل «عكاشة» كيف بدأت تجربته فى بلاط «صاحبة الجلالة»، وحصوله على دبلوم الصحافة من كلية الآداب، وتأليفه لعدد من الكتب قبل الثورة، ثم قصته فى الكتابة بجريدة «المصرى» تحت اسم مستعار، وتكليف «عبدالناصر» له لرئاسة تحرير مجلة «التحرير» وعى لسان حال الثورة، واستطاعته النهوض بالمجلة ورفع نسبة توزيعها، حتى لحظة نشره مقالا «هكذا قمنا بالثورة» يتحدث فيه عن دور سلاحه «الفرسان» بالثورة، وهو ما أثار غضب بعض أعضاء مجلس القيادة ليقرر المجلس بعدها إخضاع المجلة للرقابة، فيرد «عكاشة» على ذلك باستقالته عن رئاسة التحرير. وينتقل عكاشة من الحديث عن صاحبة الجلالة، إلى سنوات عمله الدبلوماسى بعد صدور قرار تعيينه ملحقا حربيا فى سفارة برن بسويسرا، ثم سفيرا فى باريس، وغيرها، ليكشف كيف اطلع على أسرار وصفقات الأسلحة الجديدة لإسرائيل، وإرساله إلى القاهرة بجميع التفاصيل. ثم ينتقل عكاشة فى الكتاب للحديث عن كيفية تعلقه بالثقافة والفنون منذ صغره، ثم يحكى عن علاقته بالموسيقى الكلاسيكية منها تحديدا، وكونه عاشقه ل«الأوبرا» وفنونها الراقية منذ صغره، لافتا إلى أن من المفارقات أنه علم بقرار تعيينه وزيرا للثقافة من الراديو، بعد خروجه من إحدى الأمسيات التى قضاها فى أوبرا روما، مستفيضا فى الحديث عن مبانى باريس ومتاحفها الأثرية، وأصوت أنغامها، وحكم عباقرتها وأدبائها وشعرائها، لينقل للقارئ انطباعاته عنها وأيامه فيها. يحكى صاحب المذكرات، كيف ساهم فى تأسيس فرقة الموسيقى العربية فرقة باليه القاهرة ومشروع الصوت والضوء، وتطويره لأكاديمية الفنون، وعدد من المتاحف على رأسها متحف مراكب الشمس ومتحف النسجيات، وتأسيسه المعهد العالى للموسيقى «الكونسرفتوار»، ومسرح العرائس، وفرق الفنون الشعبية، ومعهد الباليه، والسيرك القومى، وإشرافه على تأسيس دار الكتب المصرية، وإعادة طبع أمهات الكتب التراثية والمعاجم، وتوفيرها بأسعار زهيدة، ومشروع الألف كتاب، وإتاحة الكثير من المسرحيات العالمية فى سلاسل دورية للقارئ. كما يكشف عن علاقته بملف آثار النوبة، والتى بدأت بعد توليه مهام وزارة الثقافة والإرشاد القومى، حينما فاجأه السفير الأمريكى فى القاهرة، بطلب الولاياتالمتحدة بشراء معبد أبو سمبل، قائلا: «جئت أشترى واحدا أو اثنين من معابد النوبة المحكوم عليها بالغرق بعد بناء السد العالى»، ليتابع أن ذلك الطلب أثاره، وأنه «كيف يدور فى خلد أحد أن يكون تراث أسلافنا مما يباع ويشترى» ليرد عليه معاتبا: «إنه لجدير بمتحف المتروبوليتان أن يبادر بالعون العلمى لإنقاذ هذا التراث الإنسانى بدلا من التفكير فى شرائه»، ولافتا إلى أن الأمر الآخر الذى ألهمه ضرورة الحفاظ على آثار النوبة، كان كتاب «موت فيله» للأديب الفرنسى «بيبرلوتى» حيث ناشد «بيبرلوتى» المثقفين المصريين بأن يهبوا للذود عن تراثهم، وهوما حققه عكاشة بمشاركة منظمة اليونسكو ودعم الرئيس جمال عبدالناصر، حتى افتتح المعبد رسميا بعد نقله فى 22 سبتمبر عام 1968.