تكمن فلسفة السينما فى قدرتها على أن تثير داخل مشاهديها تساؤلات كبرى حول أدق مشاعر حياتهم، وعلاقتهم بأنفسهم وبالآخرين، وهل يعيشون بالفعل واقعهم؟ أم أنهم داخل حلم يسكن عالمهم؟ ويأتى الفيلم المصرى «الشيخ جاكسون» للمخرج عمرو سلامة منتميا لهذا النوع من السينما المهمومة بالتساؤلات التى يتشارك فيها البشر فى كل زمان ومكان، فعلى مدى أكثر من ساعة ونصف الساعة، يعيش الجمهور داخل عالم شاب ملتحٍ ذى مرجعية دينية، وشغف موسيقى قديم فى آن واحد، من خلال الداعية الشاب «خالد هانى» الذى نتابع مسار حياته الدينى كإمام للمصلين، ينشر أفكاره وخطبه الدينية فى تسجيلات وعظية يسمعها مريدوه، إلا أنه يحمل فى وجدانه هوسا قديما بأسطورة البوب «مايكل جاكسون»، الذى سيترتب على وفاته عام 2009 نقطة تحول فى حياة البطل، تكون منطلقا فى إعادة اكتشاف الذات ليس فى حياته فحسب، ولكن فى عقليات كل من يتابع الأحداث. فقد استخدم المخرج وفاة «جاكسون» كقوة دافعة لرحلة تأمل مؤثرة على الهوية والتناقض، ليس فقط داخل شخصية البطل الذى يعانى من أزمة الإيمان، ولكن ربما تلقى بظلالها على مجتمع اليوم بأسره. الفكرة التى طرحها المؤلفان عمرو سلامة وعمر خالد، تبدو وكأنها بسيطة لكنها شديدة العمق فى تصوير حالة ارتباك الشاب ومجتمعه، بل تخطت الواقع إلى خيالات المستقبل وهو ينتقل بنا فى نعومة شديدة على طريقة الفلاش باك بين ماضى «خالد» سواء وهو طفل، أو عندما أصبح مراهقا، ختاما بمرحلة شبابه الحالية، لنكتشف أنه ترك أباه القاسى فى الإسكندرية حين كان صبيا مراهقا، وذهب ليعيش مع خاله المتشدد بالقاهرة. وانعكست حالة المصداقية فى الأداء بانفعالات مختلفة ومتناقضة داخل الشيخ «خالد» لدرجة توحد الفنان أحمد الفيشاوى معها، شكل شعرنا معه أنه يجسد جزءا كبيرا من حياته الشخصية، كما جاءت تفاصيل صورة كاميرا أحمد بشارى ومفرداتها، وكذلك الحوار ليعكسوا أيضا جزءا من واقع تعايش معه عمرو سلامة، مؤلف العمل ومخرجه، ومعه أجيال شاركته نفس الحالة من التخبط والتساؤلات. أحداث الفيلم تدور فى زمن متشابك فى مدينة الإسكندرية، حيث نرى الواعظ المحافظ الشيخ خالد هانى الذى يعيش حياة صارمة لها طقوسها الخاصة، فهو ينام أحيانا تحت سريره وبداخله تذكير دائم بأن الموت قريب، جعله يريد أن يتخيل الحياة داخل القبر، ويصر خالد على أن ترتدى زوجته حجابا كاملا فى الأماكن العامة، بل وعندما يكتشف أن ابنته تشاهد على شبكة الانترنت أغانى المطربة «بيونسيه» المصورة، التى ترتدى فيها ملابس ساخنة، يقطع الاتصال ويحذرها من مشاهدة تلك الرقصات على الموسيقى الشيطانية بحسب وصفه وفى الوقت نفسه يطرب من كلمات زوجته التى تقول له على الفراش: «أنا أحبك لأننى أعلم أنك تحب ربنا أكثر مما تحبنى». وينقلنا المخرج والمؤلف عمرو سلامة عبر سيناريو جذاب بحبكته، وصورة تمزج بين واقع وخيال، إلى لحظة طفولة خالد عندما وجد زميلته فى المدرسة تسمع مايكل جاكسون، ويذهب لأبيه ليسأله من هو جاكسون هذا؟ فيقول له: «ده مخنث»، ويسأل أمه لترد بأنه مطرب وموسيقى شهير. هنا تولد الأفكار المتباينة داخل عقل الطفل الذى يرتبط شيئا فشيئا بجاكسون، ويعود المشهد إلى خبر وفاة جاكسون الذى يشكل صدمة لفترة خالد فى المراهقة التى جسدها بحرفية شديدة الفنان أحمد مالك، وربما تشكل قفزة أخرى فى مستقبله كممثل، وقد أصبح متيما بنجم البوب، ويواجه سخرية من قبل زملائه لمحاكاة شعر جاكسون وملابسه وحركاته الراقصة الشهيرة، وفى الوقت نفسه يرى خالد فى والده ماجد الكدوانى استبدادا بمحاولة بث كراهية جاكسون بداخله، لكن شغف الموسيقى لدى خالد يكسبه اهتمام بعض الفتيات فى المدرسة وثقة مؤقتة فى نفسه. مرة أخرى نعود لخالد «الشيخ الشاب» ليقف فى حيرة فى خياراته فى الحياة بين إيمانه بمساره الدينى، واستدعاء غير مباشر لجاكسون الذى بدأ يطارده بظهوره له أثناء إلقاء خطبة فى المسجد، أو خلال إمامته للمصلين، ومرة أخرى وهو فى جلسة مع مشايخ السلفيين، وهو ما يجعله يتلعثم وسط اندهاش مريديه ورفاقه ويبدو لهم شخصا آخر. يقرر خالد الذهاب إلى طبيب أمراض نفسية ويفاجأ أنها امرأة «بسمة» ويدور حوار طويل يبدأ بتساؤل الطبيبة عن لماذا لم يكتب اسمه فى الكشف، وبعد لحظات صمت وهروب من المواجهة، يكشف خالد عن أنه لم يعد يستطيع البكاء فى الصلاة، وأنه تأثر كثيرا بوفاة أمه «درة »، ويروى كيف مر بذكريات مؤلمة فى تلك اللحظة، من قسوة والده وحبه الرومانسى فى المدرسة، وأنه بدأ يعانى من الكوابيس والهلوسة، خلال جلسات الصلاة فى مسجده. الفيلم صور بذكاء وبموسيقى هانى عادل الموحية كيف بدأت أفكار بطل قصتنا فى الوجود تتأرجح ليصبح على وشك الانهيار العصبى، ويبدأ تعقب المخاوف والأفكار المستترة من الماضى، على أمل تحقيق نوع من الإغلاق على محطات من طفولته. الميزة الأساسية فى هذا الفيلم هو لمعان الفكرة وطموح طرحها كان أمرا مثيرا للإعجاب، حتى وإن كانت هناك لحظات درامية اقل لمعانا حيث لا تتعاطف احيانا مع بطلة واحيانا اخرى تذوب فى ميلودراميتها وخاصة فى لحظات التحرر والغفران من اشباح الماضى وهو ما تجسد فى مشهد مواجهة خالد وابيه بعد فراق خمسة عشر عاما قضاها الابن فى القاهرة بعد اغراء من خاله، وهو من اعظم مشاهد العمل حميمية وروحا واداء، بتسيده مشاهد عتاب وتسامح لكل ذكرياتهما وخلافاتهما الأليمة. الفيلم بنهايته الذكية رسالة حب إلى الحياة وقبول كل تناقضاتك، فهناك أزمة هوية فى مصر بالفعل، وخاصة فى فترة ما بعد الثورة، ومواجهة تلك الأزمة كان أكبر تحد لبطلنا النموذج، حيث ارتبط شكلا بالجلباب والذقن، وغاص وجدانيا فى حركات جاكسونية فى مشهد كان بحق رائعا وملهما، وان كان ينقصه موسيقى جاكسون الحقيقية التى افتقدناها دراميا. سوف يعبر سلامة الحدود بهذا الفيلم وتلك القصة الحساسة والرؤية الأصيلة التى لامست القلوب وهزت الافكار الجامدة فى لعبة التعرف على النفس.